قال دونالد ترامب، خلال خطابه الأول كرئيس للولايات المتحدة الأميركية: "إن الأمر الهام الآن هو أن الشعب الأميركي أصبح هو من يحكم أو الشعب أصبح الآن هو الرئيس"، يبدو أن هذه الكلمات كانت هي الأكثر صحة وواقعية ضمن الألف وأربعمائة كلمة التي كوَّنت الخطاب كله.
ولم يتوقع ترامب أن واقعية هذه الكلمات ستكون ضده، وأن الشعب الأميركي سيطبقها فوراً ضد سياساته، وأن الشعب "الرئيس" سيصادر بسرعة صلاحياتٍ هامة من صلاحياته، وسيجمد قرارات مركزية من قراراته وبوقت قياسي غير مسبوق.
فقد خرج في اليوم التالي لخطاب ترامب أكثر من مليون متظاهر في الولايات المتحدة في أكثر من ثلاثمائة مدينة أميركية، وكانت حصة واشنطن العاصمة أكثر من خمسمائة ألف متظاهر وبلغ عدد المظاهرات في الولايات المتحدة وكافة أنحاء العالم أكثر من 600 مظاهرة.
خرجت كل هذه المظاهرات ضد نوايا ترامب التي صرَّح عنها في حملته الانتخابية.
وعندما بدأ ترامب بتنفيذ تعهداته الانتخابية بعد أسبوع من توليه وأصدر مرسوماً يوم الجمعة 27/يناير كانون الثاني يتضمن عدة أمور منها تعليق استقبال اللاجئين وتعليق إصدار تأشيرات ومنع دخول مواطني سبع دول إسلامية لمدة 90 يوماً، عاجلته المظاهرات الحاشدة والوقفات الاحتجاجية المتزايدة والانتقادات الصحفية اللاذعة وراحت تتصاعد باستمرار، وأدت في وقت قياسي إلى سلسلة من الأحكام القضائية التي أصدرها قضاة فيدراليون بتعليق العمل بقرار الرئيس الأميركي في ولاياتهم، وفي نهاية المطاف توِّج ذلك بعد أسبوع واحد من مرسوم ترامب بقرار أصدره القاضي الفيدرالي في مدينة سياتل الأميركية التابعة لولاية واشنطن "جيمس روبرت"، يقضي بتعليق العمل بمرسوم ترامب الخاص بحظر دخول مواطني سبع دول إسلامية إلى أميركا في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، وليس في ولاية واحدة.
ولم يستطِع ترامب إلا وصف القرار بالسخيف، وأنه سيتغلب عليه، أما فريق ترامب فأصدر بياناً صرح فيه شون سبايسر، المتحدث باسم البيت الأبيض، بأن قرار المحكمة الأميركية الخاص بتعليق العمل بمرسوم ترامب مخزٍ، لكن تم حذف هذه الجملة من نسخة محدثة من البيان خوفاً من قرار قضائي جزائي بتهمة تحقير المحكمة.
ولم تقدم وزارة العدل استئنافاً لقرار القاضي، كما صرح سبايسر؛ بل أصدرت وزيرة العدل بالوكالة سالي ييتس مرسوماً تطلب فيه من المدعين العموم عدم تطبيق قرار ترامب المثير للجدل، فأقالها ترامب من منصبها فوراً، وأمر بديلها بتقديم الاستئناف المطلوب، ولكن محكمة الاستئناف الأميركية، في الدائرة التاسعة بمدينة سان فرانسيسكو، رفضت دعوى الاستئناف المقدمة من وزارة العدل الأميركية ضد الحكم الذي أصدره القضاء الفيدرالي.
وتمردت كذلك وزارة الأمن الداخلي الأميركي على ترامب، وأصدرت أوامرها لعناصر مراقبة الحدود الأميركية بعدم تطبيق القرار التنفيذي الخاص بعدم استقبال اللاجئين ودخول مواطني الدول الإسلامية السبع إلى أميركا، على خلفية تعليق محكمة سياتل لقرار ترامب.
أما الخارجية الأميركية فقد اضطرت أيضاً لإصدار بيان أعلنت فيه المتحدثة باسم الوزارة عن تراجع الوزارة عن سحبها المؤقت للتأشيرات استناداً إلى المرسوم الرئاسي، وأنه يمكن لحاملي التأشيرات الصحيحة التي لم يتم إلغاؤها دخول الولايات المتحدة الأميركية.
وواجهت الخارجية أيضاً توقيع أكثر من ألف دبلوماسي أميركي على مذكرة اعتراض، تندد بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكان هذا الاعتراض بهذا الحجم غير المسبوق جزءاً من الاعتراض الشعبي العارم، ودلَّ على وجود السلطة الشعبية بقوة داخل السلطات التنفيذية نفسها.
كل ذلك حصل بالضغط الجماهيري الذي هتف فيه ألوف وألوف من المتظاهرين: "نحن مع المسلمين"، و"إذا كان هناك ظلم في مكان ما فهذا تهديد لكل مكان"، وترددت هتافات عديدة مناهضة للإسلاموفوبيا، فقد رددت الناشطة "غلوريا ستينام": "إذا أراد ترامب تسجيل ومراقبة المسلمين فسنسجل كلنا أننا مسلمون".
إن ما حصل في أميركا خلال أسبوعين لهو لافت وفريد وكاشف.. لقد كشف سلطة متفوقة للشعب الأميركي.
لقد تبين جلياً أن الشعب الأميركي عندما يكتشف أن هناك مَن يعبث بقيمه، ومَن يشرخ مبادئه ويناقض ما وُضع في دستوره ووثيقة استقلاله، فإن غالبيته ترفض وتتظاهر وتضغط بشدة لكبح العابث وردعه وإبطال قراراته.
واللافت والعجيب أن كل القرارات التي صدرت من ترامب إلى الآن وانتفض عليها الشعب الأميركي لم تمسَّ الأميركيين أنفسهم وإنما مسَّت اللاجئين والمهاجرين والقادمين من غير الأميركيين؛ بل ومن غير المسيحيين؛ لأن ترامب أصلاً استثنى في قراراته الأقليات في الدول المشمولة بالمنع.
وعندما تعلم أن ترامب قد حطم رقماً قياسياً جديداً كأسرع رئيس يواجه رفضاً شعبياً بهذا الحجم ولهذه الدرجة، فإنك أمام أمر يستحق البحث والدراسة.
لقد كان من الطبيعي والمألوف في أميركا أن لا تخرج أي تظاهرات من الشعب الأميركي ضد أي رئيس لمدة تُجاوز السنة؛ ليتسنى للشعب تكوين فكرة سلبية أو إيجابية عن الرئيس الجديد، ولكن دونالد ترامب حقق رقماً قياسياً هائلاً فبعد 10 أيامٍ فقط من توليه مهام منصبه وصلت النسبة المئوية لمعارضيه من الشعب الأميركي إلى 53% وهذه النسبة لا تخص مَن انتخب منافسته؛ بل تخص مَن قرر الوقوف ضده، وهو رقم غير مسبوق نسبة وزماناً.
وعندما تجد استجابةَ وإذعانَ السلطة الرابعة الأميركية "الميديا الأميركية" لشعارات ومزاج الشعب الأميركي وهي السلطة التي عانت دائماً من ثغرات، وأثَّرت فيها ضغوط وتوجيهات فإنك لا تستطيع رغم ذلك أن تنكر أن الشعب الأميركي يسحب السلطة الرابعة وراءه إذا عرف الحقيقة.
وعندما تجد الاستجابة العاجلة من القضاء الأميركي للضغط الجماهيري، ثم تجد إذعانَ أهم المؤسسات التنفيذية لما يريده الشعب ويحكم فيه القضاء، فاعلم أنك أمام حقيقة تقول إن سلطة الشعب الأميركي فوق السلطة التنفيذية، وإن سلطة الشعب إن تحركت فإنها تحرك السلطتين التشريعية والقضائية وتُلزم السلطة الرابعة لتتبعها.
إنها سلطة الشعب الأميركي.. سلطة فوق كل السلطات.
من أجل ذلك قلنا في القضية السورية لكل المعارضين في أول مؤتمر عُقد للمعارضة في أنطاليا بتركيا في شهر مايو/أيار 2011: علينا أن نُنشئ تنسيقيات في الخارج.. تنسيقيات تعمل في كل مدينة هامة خارج سوريا، وأن نكسب للثورة في البداية أبناء الجاليات السورية الذين يحملون الجنسيات المختلفة ثم نعتمد عليهم لكسب شعوب البلاد التي يعيشون فيها، ولكسب البرلمانيين وأصحاب التأثير على القرار في هذه البلاد ليتشكل رأي عام ضاغط على الإدارات والحكومات في الغرب خاصة، وسائر أنحاء العالم عامة.
وبينما كنا نشرح ذلك كخطة عمل شاملة ونروِّج لها في الإعلام كان الجميع يتسابق لنيل تذكرة الركوب في الحافلة التي ظنوها متجهة رأساً إلى رأس السلطة في سوريا على طريق معبد مفروش بالورود.
وقد وثَّق تلك الخطة الصحفي اللبناني حسن صبرا الذي حضر المؤتمر ونشر التفاصيل في أسبوعية الشراع اللبنانية في أحد أعداد يونيو/حزيران 2011 الذي صدر آنذاك بعد المؤتمر.
كانت الخطة تتحدث عن الإسهام بإسقاط نظام بشار الأسد عبر الوصول إلى الشعوب لتضغط بسلطاتها على إداراتها وممثليها في البرلمانات، ولتستخدم حتى محاكمها.. وشبهنا الجهود المطلوبة وقتها بالجهود والضغوط الخارجية التي أسهمت في إسقاط نظام جنوب إفريقيا العنصري.
وفي 2012 التقينا بفورد، السفير الأميركي السابق في دمشق، وكان ممسكاً بالملف السوري، وكان هناك بين الحاضرين أميركيون من أصل سوري يقولون إنهم معارضون، وقد طالبناهم أمام فورد بأن يرفعوا دعاوى قضائية أمام المحاكم الأميركية ضد إدارة أوباما بتهمة إخفاء المعلومات الخاصة بجرائم آل الأسد عن الشعب الأميركي والعالم، ومَن في الإدارة تصلهم المعلومات ممن يملك أحدث التقنيات في المراقبة والتجسس، وقلنا لفورد: سنستدعيك شاهداً تحت القسم في هذه الدعاوى.. حينها لم يتحرك أحد ولم يتجاوب أحد بل اعترض أكثرهم وزمجر، ويبدو أنهم لم يكونوا إلا من اللاهثين اللاحقين بالحافلة الموهومة.
وفي عام 2013 بعد مجزرة الكيماوي كانت الطرق ممهدة إلى جلسة استماع داخل الكونغرس ولم يتقدم إليها أحد من المعارضين لا من أميركا ولا من خارجها.
وفي عام 2014 بدأ نظام بشار الأسد وأولياؤه بإقناع الإدارة الأميركية والكونغرس بأن لا بديل له إلا الإرهاب، ونجحوا بالتدريج عبر شركات علاقات عامة ووسطاء خبراء في انتزاع موافقة تامة من إدارة أوباما للإبقاء على بشار الأسد، وتشكل في الولايات المتحدة ما يشبه اللوبي الأسدي الذي يشرف عليه بشار الجعفري صاحب الولاء المزدوج لإيران وبشار، وأوصل هذا اللوبي السياسة الأميركية إلى إعطاء الفرصة كاملة لبشار والميليشيات الإيرانية لارتكاب عدد غير محدود من المجازر وعمليات التهجير الطائفي.
وفي عام 2015 و2016 سمحت إدارة أوباما لروسيا أن تمارس دور الشرطي القذر، وأن تتبع أسلوب سحق المدنيين وقتلهم بأعداد كبيرة كوسيلة عسكرية لإخراج الفصائل المقاتلة وإجبارها على الاستسلام.
كل ذلك وغيره جرى بمعزل عن علم الشعب الأميركي، ففي هذين العامين كان أحد السوريين في أميركا يُجري كل عدة أشهر استطلاعاً ضمن عينة عشوائية من الأميركيين من أربع ولايات تعدادهم مائة في كل مرة وكان يسألهم ماذا تعرفون عما يجري في سوريا عدا الحرب على تنظيم الدولة؟ وكانوا كلهم يقولون في كل مرة: لا شيء.
لقد كان الشعب الأميركي مغيباً تماماً ولم يكن يعلم عن حقيقة ما يجري في سوريا شيئاً.. لا الإدارة الأميركية التي تعلم كل شيء أبلغت شعبها، ولا الإعلام الأميركي أوصل الحقيقة إلا في مرة أو مرتين عابرتين، ولا أفراد المعارضة السورية المُجنَّسون أميركياً أو الذين في الشتات اخترقوا الحجب فوصلوا للإعلام والكونغرس ثم إلى الشعب الأميركي.
ولو وصلوا وأوصلوا نصف الحقيقة المفزعة إلى هذا الشعب لضغط على كل السلطات؛ لتنتزع قراراً ملزماً باستئصال نظام بشار الأسد كنظام معادٍ للإنسانية.
ويبقى السؤال الذي نكرره منذ فترة: هل ترامب هو الأسوأ فثار الناس ضده بسرعة وشدة؟
ويقفز فوراً الجواب الأكثر إقناعاً لهذا السؤال: إن ترامب ليس الأسوأ بل هو الأقل احترافاً في الإخفاء والمناورة والمداهنة والتمرير، وأوباما هو المحترف الذي مرر ما يريد وهو بلباس المتواضع المسالم الهادئ المتلوِّي كالحية الملساء من تحت تبن.
وباتجاه عنفوان الشعب الأميركي الذي أظهر في الأسبوعين الأخيرين ربيعاً أميركياً عاصفاً ذا قيم ما زالت الفرصة سانحة أن تصل الثورة السورية وحقائقها إلى هذا الشعب الذي أثبت أنه صاحب أعلى السلطات في بلاده، وأنه لن يسكت ولن يتفرج على مآسي ومعاناة غيره إن علم حقائق الأمور وعلم الدواهي التي تحت السواهي.