رغم الموت الذي فرّوا منه يلاحقهم الموت براً وبحراً، مرارة الحياة وسوء الأحوال الاقتصادية والخوف والمرض ونقص الدواء والتسرب من المدارس أو ما تبقى منها دون أن تدمره آلة الحرب الغاشمة، هي الحرب التي فرضت على السوريين واقعاً دون حساباتهم وخارجاً عن توقعاتهم، مما اضطرهم للبحث عن ملاذ آمن، يُبقي من تَبَقَّى منهم على قيد الحياة، هرب الملايين تاركين كل شيء خلف ظهورهم حالمين، حاملين معهم الأماني والأحلام، بحثاً عن حياة أفضل لهم ولأطفالهم، هؤلاء يمثلون فئة من الشعب السوري ممن أسعفتهم أحوالهم المادية للهجرة، بينما بقيت فئة مهمشة في المجتمع السوري تضم أيضاً شباباً ونساء وأطفالاً يعانون الخوف والفقر، وقد ينتظرون الموت الذي يطوف حولهم طوال اليوم، خاطفاً العشرات وكأنما لسان لحالهم يقول:
إن لم يكن اليوم ربما غداً نودع الأحبة، عدوهم الفقر الذي حال بينهم وبين البحث عن ملاذ آمن؛ ليحيوا به، في حين لا يقل الطريق إلى بلاد اللجوء خطورة عن البقاء في مربع الموت؛ ليجدوا أنفسهم أمام الخيار بين أمرين أحلاهما مر، بطعم مرارة البحر الذي ابتلع الآلاف منهم ومن قواربهم المهترئة المهاجرة؛ لتكون سنة 2011 حتى 2016 من أكثر السنوات التي تغذّى فيها البحر من اللحم البشري السوري من حيث معدل حالات الغرق بحراً، ولتزداد القصص وترتفع الأرقام والإحصائيات التي وثقتها المنظمات الدولية عن حالات الغرق والاستغلال والمخاطر التي يواجهها اللاجئون السوريون خلال رحلتهم نحو المجهول.. فما هو الطريق؟
بعيداً عن الفنتازيا قصص مؤلمة
اضطر ما يزيد على المليون إنسان من السوريين للمخاطرة بأرواحهم أثناء ركوبهم قوارب غير صالحة وشبه مهترئة، خلال محاولتهم البحث عن ملاذ آمن في أوروبا، كما أنهم تعرضوا خلال رحلتهم لمختلف أنواع الاستغلال، وأحياناً الضرب والاغتصاب، ناهيك عن الموت الذي يضعه المهاجر أو اللاجئ نصب عينه أثناء الطريق، تتوالى القصص المؤلمة، وتستمر ما استمرت النزاعات والحروب في المنطقة العربية.
ومن القصص المؤلمة تعود بنا الذاكرة إلى الحادث المؤلم في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2013، السفينة التي كانت تحمل على متنها 30 طبيباً سورياً مع عائلاتهم، ومن بينهم الكثير من الأطباء المعروفين بخبرتهم الطويلة، أمثال الدكتور مصطفى دقاق وغيرهم، الذين سوف تتعرف عليهم من خلال شهادة أحد الأطباء، وهذه الشهادة تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، وهي موجودة على صفحة الدكتور محمد بشر شهاب الدين، الذي قضى في الحادث ذاته، وإليكم مقتطفات الحادث، سوف أذكر بعض أسماء الذين وافتهم المنية، دون ذكر أسماء الناجين، حافظاً على خصوصيتهم.
شهادة أحد الأطباء الناجين:
يروي قائلاً: قرر نحو 300 طبيب الذهاب بحراً، تكلمنا مع المهربين، وقررنا أن نأخذ أفضل وأكبر سفينة وأفضل مهرب حينه، وبعد الإقلاع بنحو 33 ساعة لحقت بنا سفينة صغيرة عليها علم الأمازيغ، وعرفوا عن أنفسهم بأنهم خفر سواحل، لكن من الواضح أنهم عصابة، وحاولوا قلب السفينة، أخبرناهم بأننا لاجئون وهاربون، ومعنا نساء وأطفال، وأغلبنا سوريون استمروا بالمطاردة والتهديد ثم أطلقوا الرصاص في الهواء.
من بعدها استهدفوا حجرة القبطان أصيب 3 أشخاص تم تضميدهم وإيقاف النزف من قبلي وقبل بعض الأطباء، في الساعة 4 عصراً كانت السفينة تترنح، وبدت أخفض من المستوى الذي كانت عليه.
ويضيف الطبيب على شهادته: أصاب الهلع جميع الركاب، تسرب الماء، وازدحم الطابق الأوسط من السفينة، بعد نحو ربع ساعة تسرب قسم من الماء إلى القسم الأوسط من السفينة، بدأت السفينة بالترنح يمنة ويسرة، وتفقد توازنها، بدأت أدعو بصوت مرتفع وزوجتي تنظر إليّ بخوف، لكني أنظر إليها بطرف عيني، وأنا غير قادر على النظر إليها مباشرة خجلاً، وكي لا أرى ملامح الخوف على وجهها.
لم يكن أحد يعرف ماذا سيحدث؟
حتى الساعة 4.45 عصر يوم الجمعة، وفجأة وبلحظة، وبعد أن مالت السفينة للأيسر، انقلبت السفينة على جانبها الأيمن 90 درجة، فأصبح حائط السفينة الذي كان خلفنا أصبح تحت أقدامنا، ووقفنا عليه، والشباك الكبير الذي كان أمامنا أصبح فوقنا، كانت زوجتي أمامي، وظهرها لي، وبثانية واحدة غمرتنا المياه، فأمسكت بخصر زوجتي بقوة بكلتا يدي بقوة، وبعد ثانية أخرى وجدت نفسي وسط الماء بدونها، أحسست من قوة عزم (الخبطة) بانفلات يدي منها، أحسست (وهذه أول مرة أقولها للناس)، أحسست كأن الله قال لي: "لن تأخذها، الأمر ليس بيدك".
بعد 15 ثانية، وجدت نفسي بدونها، وأنا فوق الماء، والسفينة بأكملها مقلوبة رأساً على عقب، أدركت أنها علقت بالسفينة مثل كثير من الناس، مثل نحو 150 شخصاً علقوا داخل السفينة.
كان من المستحيل إنقاذها؛ لأنها غير مرئية أبداً، والسفينة أصبحت على عمق 7 أمتار، اعتقدت مثلما يعتقد أي إنسان عندما يرى مصيبة كبيرة جداً أن هذا كابوس سرعان ما سأستفيق منه.
فجأة وجدت نفسي بين العشرات من الناس الذين يتخبطون في الماء، والذي لا يعرف السباحة يقفز فوق الآخر، هنا دخلت في حالة من الصدمة، هنا كل إنسان يقول: نفسي.. نفسي.
بقيت مصدوماً لا أعلم ماذا أفعل، وأنا أستغفر، وأقول: سامحوني يا حبيباتي وأنا أبكي، خطرت لي آلاف الأفكار، منها ما يقول لي إنه كابوس سرعان ما سأستيقظ منه، ومنها ما يخطر ببالي، ماذا سأقول لأهل زوجتي؟ وكيف حصل هذا؟
غرق المئات، قسم كبير منهم يجيد السباحة (منهم زوجة صديقي، لديها ميداليات في السباحة، كانت تقول له مازحة إذا صار شيء أنا بنفذك فنجا هو الذي لا يعرف السباحة وغرقت هي)، ومنهم صديقنا د. مصطفى الدقاق الذي كان يقول، رحمه الله: إذا صار شيء -لا سمح الله- فأنا بعرف أسبح وأولادي الشباب كمان "سبيحة"، وتوفي هو وأولاده، توفي أناس كثيرون معهم بزات نجاة منهم د. عمران رسلان وجميع عائلته، علقوا في السفينة ولم يوجد منهم أي فرد، ومنهم د. خالد العوض وابنه واثنتان من بناته، ونجا أشخاص لا يعرفون السباحة أبداً، منهم طبيب زميلنا وزنه 130 كغ، ومنهم طبيب تعرفنا عليه توفيت ابنتاه الصغيرتان، لديه شلل أطفال وداء رئوي، ولا يجيد السباحة.
بقيت هائماً أبحث هنا وهناك دون جدوى، بينما السفينة بعد دقيقة واحدة من انقلابها أصبحت بالأكمل تحت سطح الماء، وهبطت إلى الأعماق السحيقة، واختفت عن الأنظار، بعد نحو الساعة والنصف بدأت تظهر سفن الإنقاذ، وعندما وصلوا صعدت على الخيمة المطاطية، وجلست أبكي وأتقيأ، بعدها اقتربت منا سفينة صيد إيطالية، صعدنا عليها، ثم أخذتنا السفينة المالطية.
تبقى هذه القصة واحدة من عشرات آلاف القصص التي حدثت وتحدث فيما بعد القرن العشرين الذي ننادي فيه جميعنا بحقوق الإنسان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.