ما الذي يحدث في تركيا؟ بضاعة تُردّ أم مؤامرة تحاك؟

تتضافر عدّة عوامل اجتماعية وجغرافية وسياسية تجعل من تركيا هدفاً ليّناً للإرهاب، فاجتماعياً تتميز تركيا بتنوعها الإثني والطائفي والديني في تعداد سكاني قدّر حسب آخر الإحصائيات بـ77 مليون نسمة، ونسيج اجتماعي هجين ومتنوّع، فالعنصر التركي يشكّل نحو ثلثي السكان، يليه الكردي بحوالي 20% من نسبة السكان، فيقارب تعدادهم الـ15 مليوناً، يتركّز ثلاثة ملايين منهم في إسطنبول فقط، ويتوزّع البقية في 20 محافظة تركية، أهمّها غازي عنتاب وديار بكر

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/03 الساعة 01:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/03 الساعة 01:22 بتوقيت غرينتش

الساعة: صفر، التاريخ: 1 يناير/كانون الثاني 2017، المكان: مطعم "رينا"، حي أورطاكوي بمنطقة بيشيكتاش مدينة إسطنبول، الحدث: مسلّح يطلق النار علی رواد الملهی باستعمال رشاش "إيه كيه 47" وقنبلة يدوية.

هكذا استقبلت تركيا عامها الجديد بكل دموية، في رسالة رمزية بأن الإرهاب قادر على أن يطالها في أي زمان ومكان، مهما كانت الإجراءات الأمنية، وهو ما تأكد مع حادثة اغتيال السفير الروسي في معرض فنّي في قلب العاصمة.

حصيلة الليلة الفاصلة بين عامَي 2016 و2017 كانت ثقيلة، فكأنّ سنة 2017 أخذت المشعل عن سابقتها، في إشارة إلی تواصل وحشية الإرهاب بعد سنة سوداء، ستظلّ ذكراها أليمة في الضمير الجمعي التركي، وهذه لمحة عن أهم العمليات الإرهابية التي صارت في تركيا خلال سنة 2016.

* 12 يناير 2016: مقتل 12 سائحاً ألمانياً في هجوم انتحاري بمنطقة السلطان أحمد في إسطنبول.

* 14 يناير: تفجير سيارة في مقرّ شرطة سينار، ما خلّف عشرات القتلی والجرحی.

* 17 فبراير/شباط: انفجار سيارة مفخخة في أنقرة بالقرب من مقرّات حكومية، يسفر عن سقوط 30 قتيلاً و80 جريحاً.

* 18 فبراير: تفجير بمحافظة ديار بكر يسفر عن مقتل جنديين وضابط شرطة.

*13 مارس/آذار: تفجير سيارة مفخّخة في أنقرة والحصيلة 34 قتيلاً، وأكثر من 120 جريحاً.

*19 مارس: تفجير بمنطقة تقسيم في إسطنبول، ومقتل 4 سائحين.

* 31 مارس: تفجير بمحافظة ديار بكر، أسفر عن 7 قتلی وأكثر من 30 جريحاً.

* 27 أبريل/نيسان: تفجير بمدينة بورصا، والحصيلة 5 قتلی وعشرات الجرحی.

* 1 مايو/أيار: انفجار سيّارة مفخّخة في غازي عنتاب يسفر عن 3 قتلی.

* 10 مايو: انفجار سيارة بديار بكر، والحصيلة 3 قتلی وعشرات الجرحی.

* 7 يونيو/حزيران: انفجار سيّارة مفخّخة في إسطنبول، ومقتل 11 شخصاً.

* 28 يونيو: مقتل 47 شخصاً في ثلاثة اعتداءات انتحارية بمطار أتاتورك الدولي بإسطنبول.

* 20 أغسطس/آب: انتحاري يقتل 50 شخصاً في حفل زواج بمحافظة غازي عنتاب.

* 26 أغسطس: مقتل 11 شرطياً تركياً في اعتداء إرهابي بمدينة جيزري علی الحدود السورية.

* 9 أكتوبر/تشرين الأول: 18 قتيلاً في انفجار شاحنة خفيفة مفخخة أمام مركز للشرطة في محافظة هكاري.

* 4 نوفمبر/تشرين الثاني: انفجار سيارة مفخّخة يوقع 9 قتلی أمام مركز شرطة بديار بكر.

* 10 ديسمبر: تفجيران أمام ملعب بيشيكتاش في إسطنبول يسفران عن مقتل 27 شخصاً.

وعلی ما يبدو فإنّ 2017 للأسف لن يقل دموية في تركيا، ففي لحظة كتابة هذه السطور بتاريخ 5 يناير 2017، تقع عملية إرهابية في مدينة إزمير، راح ضحيّتها شخصان كحصيلة أوّلية.

تركيا فسيفساء عرقية ووضع إقليمي متفجر

تتضافر عدّة عوامل اجتماعية وجغرافية وسياسية تجعل من تركيا هدفاً ليّناً للإرهاب، فاجتماعياً تتميز تركيا بتنوعها الإثني والطائفي والديني في تعداد سكاني قدّر حسب آخر الإحصائيات بـ77 مليون نسمة، ونسيج اجتماعي هجين ومتنوّع، فالعنصر التركي يشكّل نحو ثلثي السكان، يليه الكردي بحوالي 20% من نسبة السكان، فيقارب تعدادهم الـ15 مليوناً، يتركّز ثلاثة ملايين منهم في إسطنبول فقط، ويتوزّع البقية في 20 محافظة تركية، أهمّها غازي عنتاب وديار بكر، إضافة إلی أقلّيات أخری، مثل الأرمن واليونان، وأقلّيات دينية،

مثل المسيحيين واليهود، وأقلّيات طائفية مثل الشيعة والعلويين، والإرهاب في تركيا علی عكس القاعدة الشائعة في العالم ليس إرهاباً دينياً فقط، بل هو إرهاب تتنوّع روافده بين الدينية والقومية الانفصالية، مثل المشروع الكردي الذي يعود إلی عقود خلت، بعد أن حارب الكرد مع كمال أتاتورك، ثم تنكّر لوعوده بدعم مشروعهم القومي؛ لتعلن تركيا الحرب علی أكراد الجنوب في حرب استنزاف بالأساس مع حزب العمال الكردي، الذي أسّسه عبد الله أوجلان سنة 1978؛ ليتواصل الاحتراب لعقود راح ضحيته 40 ألف قتيل من الجهتين، ولئن تقلّصت المواجهات المباشرة بين الجيش التركي والأكراد بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلی الحكم، وفتح باب الحوار مع الأكراد واعتماد مقاربة الوحدة الدينية،

وقد تتوج هذا النهج السلمي بنداء عبد الله أوجلان التاريخي لأنصاره من سجن بجزيرة إيمرالي في بحر مرمرة (حيث يقضي حكماً قضائياً بالمؤبّد) بإلقاء السلاح وفتح باب الحوار مع الحكومة، فإن التطوّرات في سوريا والعراق أعادت لأكراد تركيا الأمل في دولة قومية في دول الهلال الخصيب، وهو ما يفسّر تسلّل مسلّحين من سوريا والعراق تابعين لجماعة صقور حرية كردستان العراق وحزب الاتحاد الديمقراطي (أكراد سوريا)، ووحدات حماية الشعب الكردي، وتبنّيهم لعمليات انتحارية في العمق التركي، مع سهولة التنقل بين المناطق الحدودية السورية التركية العراقية؛ نظراً لسيطرة الأكراد علی أغلب المنافذ الحدودية، ودرايتهم بشعاب المنطقة.

ومع تفجّر الوضع في المنطقة، تعاظم خطر الإرهاب وتنوّعت جبهاته، ممّا جعل التصدي له واجتثاثه علی المدی القريب ضرباً من المحال؛ لتضافر مجموعة عوامل جغرافية وسياسية واجتماعية، فالجغرافيا الشاسعة والتضاريس الوعرة علی الحدود والحاضنة الاجتماعية للإرهاب وسياسات تركيا المتذبذبة، لا سيما في التعامل مع تنظيم الدولة، أسهمت في تعاظم خطر الإرهابيين، الذين أعلنوا الحرب صراحة علی تركيا بعد بيان تنظيم الدولة؛ حيث تبنّی هجوم ليلة رأس السنة فيما اعتبره نصّ البيان "مواصلة للعمليات المباركة التي تخوضها الدولة الإسلامية ضد تركيا حامية الصليب، دك أحد جنود الخلافة الأبطال أحد أشهر الملاهي الليلية؛ حيث يحتفل مسيحيون بعيدهم الشركي".

انقلب السحر علی السحرة أم مؤامرة ضد تركيا؟

إن المتابع للتحليلات السياسية، خاصة في العالم العربي، يقف عند عمق الفجوة الأيديولوجية والانقسام في المواقف حيال المشهد في تركيا، فهكذا جبل العرب لا يعترفون بالحياد والوسطية، ودائماً ما تكون أفكارهم معانقة للتطرف والغلوّ، وموغلة في الحقد أو التعاطف، فالمعسكر اليساري بروافده القومية والشيوعية والاشتراكية والطغمات العسكرية، لا يوارب عبر أذرعه الإعلامية في التشفّي، واعتبار الوضع في تركيا نتاجاً سببياً وحتمياً لسياسات أردوغان "الإخواني"، وإسطنبول التي أصبحت ملاذاً لقيادات الجماعات الإسلامية المحظورة،

وأرضاً حاضنة لنشاطهم السياسي والإعلامي، كما أن القوميين العرب المتعاطفين مع نظام الأسد في دمشق، ما فتئوا يحملّون أنقرة جزءاً كبيراً من وزر المأساة السورية، من خلال اتّهامها بالتساهل مع الجهاديين، بإرخاء الحبل لهم في الحدود للعبور نحو الأراضي السورية، وغضّ الطرف عن شبكات التسفير ودعم المعارضة المسلّحة في حلب، فأغلب الفصائل المقاتلة ضد جيش بشّار تدين بالولاء لتركيا، وهو ما تأكّد بعد انسحاب أغلب الميليشيات من ساحات الوغی في حلب، استجابة لأوامر تركية انبثقت عن صفقة مع الجانب الروسي، وهذه الميليشيات هي أحرار الشام،

وفيلق الشام، وجيش الإسلام، وصقور الشام، وجيش المجاهدين، وجيش إدلب والجبهة الشامية، كما أن تركيا حسب تقديرهم انتهكت الحرمة السورية، باجتياح جيشها لمدن سورية مثل جرابلس والباب، ومن قبلهما منبج في إطار عملية درع الفرات التي خاضتها وما زالت ضد تنظيم الدولة، كهدف تمويهي للتحجيم من الخطر الكردي المتعاظم.

أمّا وجهة النظر الأخری، فتتبنّاها تيّارات الإسلام السياسي، وخاصة التيارات الإخوانية وبعض العائلات السياسية المقرّبة منها التي تری في أردوغان مثالاً نموذجياً في التوأمة بين الإسلام والديمقراطية، واستمراريته في حكم تركيا هو الريح النافخ في جذوات الحركات الإسلامية التي تعارضها النخب العربية بشراسة، وهذا الموقف يعتبر ما يحصل في تركيا استكمالاً لمؤامرة دولية كاملة تتشابك فيها مصالح الغرب مع الشرق، فلحظة الانقلاب الفاشل كانت فارقة، وبداية لصفحة جديدة من تاريخ تركيا، ومثلت ميلاداً لشكل مستجدّ من التحالفات الدولية وتشكّل جديد للخارطة الجيوسياسية،

فلم تتردّد أنقرة في التعبير عن خيبة أملها من واشنطن بعد رفض تسليمها زعيم حركة "الخدمة" الداعية فتح الله غولن، الذي وجّهت إليه صراحة ودون مواربة، تهمة الضلوع في محاولة الانقلاب في 15 يوليو/تموز 2016، ولم يتردّد أردوغان في اتّهام باراك أوباما بدعم الجماعات الإسلامية المتشدّدة، مؤكداً امتلاكه لتسجيلات تؤكد مزاعمه، كما أن تركيا ورغم تحالفها العسكري مع أميركا كانت حذرة في التعامل معها، خصوصاً مع دعم واضح من واشنطن للأكراد، وهو دعم تاريخي وجغرافي (أكراد العراق، سوريا، تركيا، إيران)، وهذا التوجّس التركي إزاء أميركا من المؤكد أن له مؤيداته، مع تلميحات رسمية تركية باستهداف البيت الأبيض لاستقرارها الداخلي، وفي استكمال لنظرية المؤامرة، يری أصحاب هذا الطرح أن تركيا معزولة إقليمياً،

فعلاقاتها مضطربة مع سوريا الأسد وعراق العبّادي، وعلاقات فاترة حذرة مع إيران لها مشروع قومي توسّعي يصطدم بمشروع عثماني لا يقلّ قوة وعقبة كؤود أمامها، وهو ما يجعل إضعافه ضرورة لدی طهران، بعد أن أنهكت واستنزفت كل أعدائها من الدول السنّية، وفي الجانب الغربي أين تطلّ إسطنبول علی القارة الأوروبية، لا يبدو الحال أفضل من نظيره شرقاً، فالمشاورات مجمّدة مع الاتحاد الأوروبي، وبلغت مرحلة التصادم الدبلوماسي، مع تنكّر أوروبا لتعهّداتها مع تركيا، وتهديد الأخيرة باستعمال ورقة المهاجرين، سواء بالضغط بها علی الحدود البلغارية،

أو بحرياً في حدودها مع اليونان عبر بحر إيجة، كل هذه الظروف الخارجية تجعل من تركيا محلّ استهداف ومحاصرة من كل الجهات، إضافة إلی نشاط كردي في الداخل، وخلايا نائمة وتغلغل لأنصار غولن في كل مفاصل الدولة، بما في ذلك الأجهزة الأمنية والعسكرية.

لا يخلو كلا الطرحين من نزعات عاطفية، ومواقف أيديولوجية ممجوجة، ولكنهما كذلك يلامسان الصواب في بعض النقاط، فتهاون تركيا في التعامل مع الجهاديين العابرين لحدودها نحو سوريا يبدو جليّاً، وموقف أردوغان من الإطاحة ببشار الأسد لا يستحقّ خبيراً في اللسانيات عندما وعد الرئيس التركي بالصلاة في الجامع الأموي بدمشق، ودعمه للفصائل المقاتلة موثّق وثابت باحتضان قياداتها وتنظيم اجتماعاتها في إسطنبول وأنقرة والتحكم فيهم ميدانياً.

ولكن من ناحية أخری، يبدو أن تعاظم شأن تركيا الإقليمي وحضورها كقوّة فاعلة ومؤثرة قد أزعج الكثير، مع طفرة اقتصادية سحبت البساط من تحت بعض الدول الغربية، كما أن تحالفها مع روسيا عسكرياً، واستئثارهما باقتسام الكعكة السورية لم يرُق كثيراً لشرطي العالم الذي أضحی حضوره الإقليمي في الشرق الأوسط باهتاً مع سياسات باراك أوباما.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد