ترامب يأتي في غفلة من استطلاعات الرأي والقراءات الانتخابية الدقيقة، وفي ظل تآكل متزايد لرأس المال السياسي الأميركي الخارجي وانسحاب متدرج من مستنقعات المناطق المضطربة، مما أفقد أميركا كثيراً من قدرتها القيادية عبر انسحاب بيِّن من القضايا الكبرى، مع تزايد النفوذ الروسي، وخاصة في الشرق الأوسط، ولم يتحقق لأميركا أي إنجاز استراتيجي في السياسة الخارجية طوال عقد مضى.
وفي ذات السياق، فقدت أميركا شرعيتها الأخلاقية، خاصة في العالم العربي، وبشكل رئيسي في تهاوي قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي كانت عنصراً رئيسياً في نظريتها للتأثير الدولي، وليس بعيداً، تنزوي العولمة في ظل فجوة تتعمق بين الأغنياء والفقراء على مستوى الدول؛ مما يؤدي إلى سقوط النظرية الاقتصادية الأميركية في سَوْق العالم إلى بيت الطاعة المالي والاقتصادي الأميركي.
وتحقيقاً للإنصاف فقد استعادت أميركا ذاتها اقتصادياً في مكونها الداخلي خلال دورتي أوباما الذي منح أولوية للمجتمع الأميركي الداخلي، وخاصة في الإطار الاقتصادي والاجتماعي.
ترامب المصارع لا يخرج عن شخصيته ولا يتنازل عن برنامجه الخطابي الشعبوي، وفي خطاب التنصيب يجدد نداء الانعزال الداخلي بخطاب "أميركا أولاً" والذي يبدو أنه خطاب متعالٍ، ولكنه يحمل الكثير من الانغلاق الذي لا يليق بإمبراطورية، مما سينعكس مزيداً من الغياب للحضرة الأميركية عبر تقليص الاتفاق الخارجي ومنح مزيد أولوية للاقتصاد الداخلي، باستثناء السعي لإلغاء قانون الضمان الصحي الذي لا أظن ترامب يفلح في الوصول لشطبه.
الانغلاق والتقوقع يذهب باتجاه العنصرية البيضاء وفق ترامب المنقلب على أميركا المتنوعة، فنراه يذهب باتجاه بيئة غير منسجمة مع ذاتها، وتؤثر حتى داخل حزبه الجمهوري فضلاً عن الحزب الديمقراطي، وذلك عبر خطاب قومي عنصري غريب عن أميركا التي كانت آخر رؤسائها "أسود" بعد ثورة تغيير ممتدة لعقود مضت على عنصرية العرق واللون، ومنحت أميركا رأس هرمها لأوباما الأسود بعد ثورة مارتن لوثر كينغ.
وبالتأكيد سيسعى الحزب الجمهوري لتخفيف حدة الخطاب الشعبوي لترامب تجنباً لتهديد ولادة "أميركا المنقسمة"، وربما يساعدهم في ذلك الخروج المتكرر لمظاهرات رفضت تنصيب ترامب.
وترامب سيُدرك عاجلاً حدود سلطته في منظومة الحكم الأميركي، وهذا لا يمنع من انعكاس فكره العنصري ضد المهاجرين والأقليات بخلق توتر وانقسام في المجتمع.
ترامب خارجياً وعبر اختيارات مساعديه وخطابه الشعبوي وتصريحاته تشي بمزيد من الرغبة في بسط تحقيق مزاعم سلام أميركي عبر النفوذ والقوة، وربط ذلك مع قوة وحيد القرن بالتخلي عن حلف الناتو باعتبار أن الزمن قد عفا عليه كما صرح، مع المضي قدماً في مشروع الحد من الأسلحة النووية، ولعل الاتفاق النووي الإيراني يشكل بيت القصيد لتحول انقلابي لترامب بالتراجع عنه، والمرجح عدم استطاعته الانكفاء عنه باعتباره اتفاقاً ترعاه المؤسسة الأميركية بكافة مكوناتها.
وفي المقابل تعزيز منظومة الدفاع الصاروخي في مواجهة جنون الممكن عبر مهددات كوريا وإيران.
متوقع أن يكون التفاوض خياره الوحيد مع الصين، وعقد الصفقات في أوكرانيا وسوريا مع روسيا، وتقوية العلاقة مع مصر، ودعم حكومة العراق، ومعاداة قوى التغيير والثورة، خاصة الإسلام السياسي، ومحاولة تحجيم التمدد الإيراني، وتعزيز العلاقة مع تركيا، وانحياز مُطلق لـ (إسرائيل)، وسيستمر تراجع ثقل أميركا وتصاعد دور القوى الإقليمية المتصارعة في المنطقة، مما يُنبئ باستمرار الواقع المضطرب والدموي في المنطقة.
وتعالت لدى ترامب أيضاً الأسطوانة المشروخة في "الإرهاب الإسلامي" أو "الإسلام المتطرف" ويجدد هتافاً متعاقباً على سياسة أميركا بلغة أكثر عنصرية بالقضاء على "الإرهاب الإسلامي" و"هزيمة الإرهاب دولياً" وخاصة في الشرق الأوسط عبر منع التمويل بشكل رئيسي مع اعتماد لمبدأ "تحالفات الضرورة" العسكرية، ومن ذلك التحالف مع روسيا – بوتين، الذي سينعكس على إدارة الملف السوري وإدارة التدخل في الشرق الأوسط، سيكون هنا مشهد الدبلوماسية الناعمة وعقد الصفقات مع روسيا تحديداً سيد الموقف. وذلك رغم التحقيق في تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية وفضائح مبكرة وغير مسبوقة للرئيس الأميركي (45) إلى أين سيصل مداها.. الله أعلم؟
ترامب في البيت الأبيض يحمل القتامة لقضية فلسطين، في ظل دعمه اللامحدود للكيان الصهيوني، مما يُنبئ بعواقب لا يحبها أصحاب مشروع التسوية، وذلك بالسماح للاحتلال باستئناف الاستيطان دون قيد أو شرط، ومن هنا وافق نتنياهو بعد رفض على مشروع قانون وضع المستوطنات، وإغلاق ملف حل الدولتين نهائياً، وربما الذهاب لنقل السفارة إلى القدس، ويتحمس غلاة اليمين اليهودي بتغيير الوضع الحالي في الأقصى بمباركة ترامبية، واعتماد المفاوضات المباشرة طريقاً وحيداً. ومن هنا كان مؤتمر دولي للسلام في باريس باهتاً، بل ويرفض نتنياهو فوراً دعوة هولاند إلى لقاء ثنائي مع عباس، والأخير يسارع بقبولها. لست مبالغاً بأن خطر تفكك السلطة واحتمال انهيارها قد تزايد بهيمنة صورة ترامب على الشاشة العالمية.
إن الحكمة تقتضي تجنب التصعيد في الخطاب الإعلامي مع أميركا، مع تعزيز العلاقات الدولية والإقليمية، وخاصة مع روسيا والصين وتركيا وإيران، مع تجنب المساجلة الإعلامية مع أي من الأطراف المحيطة، وفتح قنوات تواصل مع المؤسسات الأميركية والأوروبية المجتمعية.
خرج ترامب بخطاب التنصيب وكأنه خطاب الدعاية الانتخابية ولم يخرج عن حدود شخصه المثير للجدل والخوف على أميركا من نفسها قبل الخوف منها على الآخرين. وترامب لم يرث مثل سلفه عظيم المشكلات، ولكنك أيضاً تسلم بيئة مضطربة وملفات شائكة، وما يخيف ارتباط ترامب بالمليارات والاقتصاد وربما هذا يشكل حافزاً لمغامرات مجنونة على غرار ما فعل "بوش الابن" في العراق.
اليمينية المتطرفة القائمة على العنصرية والإقصاء والتفرد وشطب الآخر وجه ليس جديداً على العالم، وإنما يمارسه عديد القادة بشكل مقيت وعلى رأسهم نتنياهو. ويمثل ترامب الوجه الصارخ للصعود اليميني المتطرف، وقد نكون أمام عصر الكابوي الأميركي مجدداً مستحضرين "بوش الابن"، حتى وإن كانت أميركا مؤسسة رئاسية متكاملة فإن شخصية الرئيس لها حضور وازن، ولذلك قد نصبح أمام منحى جديد للسياسة الأميركية بنقل السفارة إلى القدس، وتدخلٍ فج في إعادة رسم حدود المنطقة المتشظية، في ظل لغته العدائية للسعودية وإيران وكل من هو مسلم.
تدريجياً ينتقل سُعار صعود الفكر اليميني المتطرف إلى الانتخابات الأوروبية؛ لتبدأ ما يمكن أن نسميه تسونامي الترامبية العالمية، وكل ذلك أمام السؤال الكبير: هل نحن أمام عالم جديد تحكمه لغة المصارعة وتسوده فوضى القوة وقانون الغاب؟
ترامب تواضع في خطاباتك القادمة، واعلم أنك تعمل في مفترق قد يؤدي بالإمبراطورية الأميركية نحو الانزواء لدولة قوية في ذاتها ولا تأثير لها خارج حدودها، أو تمنحها مزيد سنوات لإمبراطورية وحيد القرن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.