وداعاً إيران، لا لِلطمِيَّات، مرحباً بالفودكا الروسية، يرحبون بروسيا التي استخدمت الفيتو ضدنا ست مرات، وما زالت شريكاً في القتل والتهجير منذ بداية الأزمة، نعم بهذه الكلمات روَّج بعض السوريين لروسيا، وعبَّروا عن فرحتهم باتفاق الهدنة الذي وقَّعه عدد من فصائل المعارضة المسلحة مع نظام الأسد، برعاية روسية – تركية، وموافقةٍ إيرانيةٍ معلنة، وترحيب إقليمي دولي واسع، تجلَّى باعتماد قرار أممي قدمته روسيا وتركيا، يدعو لاحترام الهدنة والسَّماح بدخول مساعدات إنسانية إلى كافة المناطق المحاصرة، لكن ورغم كل هذا الزخم لم تكد تنقضي 24 ساعة على توقيع الاتفاق الذي كان من المفترض أن يشمل كامل الأرض السورية، إلا وسُجّل أكثر من 33 خرقاً للهدنة من قِبل نظام الأسد وميليشيات إيران، الأمر الذي دفع الفصائل الموقّعة على الاتفاق للتهديد بنسف الهدنة.
صحيحٌ أن خروقات نظام الأسد شملت أكثر من محافظة، كحلب وإدلب وحمص وحماة وريف دمشق ودرعا، لكنها تركزت على وادي بردي للاستفادة من زخم العملية العسكرية في حلب وما حققته من نتائج كارثية على الثورة السورية، وذلك في محاولة واضحة لإخضاع المنطقة التي استعصت على نظام الأسد وحلفائه الشيعة منذ بداية الثورة؛ إذ ورغم أن مدن وقرى الوادي مشمولة بما يسمى هدنة الزبداني – الفوعة – كفريا، فإن هذا لم يمنع النظام من خرق الاتفاق كما خرق العشرات من الهدن والمصالحات، حتى عملية تهجير (إجلاء) أهالي حلب تم تجييرها لإخراج المئات من قريتَي الفوعة وكفريا، الذين خرجوا ليجدوا الأمم المتحدة قد هيَّأت لهم بيوتاً مسبقة الصنع تقيهم شر برد وصقيع اكتوى به مهجّرو حلب.
الغريب هو أن نظام الأسد والميليشيات الشيعية وبدل تقديم أي بادرة حسن نية تدل على التزامهم بالهدنة الموقعة برعاية إقليمية ودولية، كثفا من وتيرة قصفهما لقرى وبلدات الزبداني بعد الاتفاق، وما زال الحشد مستمراً في محاولة لاقتحام المنطقة من أكثر من محور مع التركيز على محور بسيمة الاستراتيجي.
عشرات الخروقات دفعت وزير الخارجية التركي مولود أوغلو لمطالبة إيران بممارسة نفوذها على أمل إنجاح الاتفاق، حيث وخلال حديث للصحفيين بولاية أنطاليا التركية مساء الجمعة، أول أيام سريان الهدنة، قال: إن "تركيا وروسيا ضامنتان لاتفاق وقف إطلاق النار"، مطالباً إيران بممارسة نفوذها بشكل إيجابي، لا سيما على ميليشيا حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية والنظام السوري، مثلما وعدت في موسكو وشاركت في الإعلان المشترك.
لعل أوضح تعبير عن موقف إيران الحقيقي وغير المعلن من الهدنة، هو ما صدر من تصريحات على لسان المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني العميد رمضان شريف، الذي صرح بعد يوم واحد فقط من بدء سريان الهدنة قائلاً: إن "محور المقاومة" قد يواصل عملياته العسكرية بأي منطقة في سوريا حال اقتضت الضرورة ذلك، زاعماً أن هذا المحور يهدف لمواجهة "إسرائيل"، وأن المسلحين وبعض المجموعات الإرهابية يقفون مانعاً أمام تحقيق ذلك.
علي شمخاني، أمين المجلس القومي الإيراني، وأثناء لقائه كلاً من رئيس "الأمن الوطني لنظام الأسد" علي مملوك ووزير خارجيته وليد المعلم، شدد بدوره على أن أي حوار سياسي يهدف إلى إضعاف سلطة النظام على "كل الأراضي السورية" محكوم عليه بالفشل، وأن ما يضمن وقف إطلاق النار والتزام المسلحين به هو الحفاظ على قوة النظام في سوريا، ومراقبة تحركات وأنشطة الجماعات المسلحة، مضيفاً أن قبول المعارضة السورية المسلحة وقف القتال هو نتاج لما تحقق ميدانياً في حلب.
تصريحات المسؤولين الإيرانيين تنم عن انزعاج واضح من الهدنة رغم أنها تصب في صالح النظام، لكنها تدل على رغبة جامحة في السيطرة على إحدى أهم المناطق التي تربط العاصمة دمشق وسوريا بلبنان، وهي لن توفر فرصة للفوز بها، فوجود الوادي بيد الثوار يجعل العاصمة دمشق مهددة على الدوام، كما أنه يوفر فرصة انطلاق باتجاه لبنان، هذا فضلاً عن قدرته على إفشال مشروع التغيير الديموغرافي للمنطقة، الذي تهدف إيران من خلاله لتأمين خاصرة حزبها اللبناني.
لطالما سعت إيران لإفشال أي مشروع تسوية للأزمة السورية، حتى وإن ضمن لها بقاء الأسد وأركان نظامه في الحكم، فهي تعلم أن أي وقف للحرب يعني نهاية مشروعها التوسعي الذي يعتمد أساساً على إثارة الفوضى في المنطقة، الأمر الذي يسمح لها باستخدام أدواتها المحلية من خلال تأجيج الصراعات الطائفية.
من المثير للدهشة أن نستمع لتصريحات رعاة الهدنة وهم يقولون إن خروقات النظام لا تستوجب انهيار الهدنة؛ حيث صرح وزير الدفاع التركي "فكري إشيق" قائلاً: "إن ما يقع حتى الآن من خروقات لا يرقى إلى حد أن يكون سبباً في انهيار الهدنة". وهنا لا بد لنا أن نتساءل عن ماهية الاتفاق والغرض منه، إذا لم يكن يهدف لوقف الأعمال القتالية وما يرتكب من جرائم قتل وتجويع وتهجير؟ وبالتالي فهل كان الاتفاق خديعة وفخاً للموقّعين عليه، خاصة في ظل كابوس حلب ونكستها التي تحدث عنها أبو "العبد أشداء" الذي اختاره المقاتلون أميراً عليهم قبل سقوط المدينة بأيام، والذي عزا أسباب الهزيمة لعدة عوامل، منها عملية درع الفرات، وارتهان قرار الفصائل للخارج، وفرار البعض من مواقعهم، وتسليم آلاف المقاتلين لأنفسهم ومخازن أسلحتهم لنظام الأسد وميليشيات إيران الشيعية.
في نظرة سريعة على الفصائل السورية المسلحة الموقعة على اتفاق الهدنة، سنجد أن الموقعين هم أنفسهم من وقع على الاتفاقات السابقة وهم أنفسهم من شارك في مفاوضات جنيف تحت مظلة الائتلاف وهيئة المفاوضات العليا وبرعاية عربية دولية، تلك المشاركة التي لم تحقق تنفيذ حتى بعض فقرات القرارات الدولية الخاصة بإدخال مساعدات إنسانية للمناطق المحاصرة، لكنهم اليوم يعودون ليقودوا العملية بأنفسهم، وكأننا أمام لعبة يتبادل فيها السياسيون والمسلحون الأدوار.
ليس فينا ومنا من لا يرغب بعودة السلام لوطنه، وليس فينا من لا يرغب بالعيش بأمان، هي أمانٍ وآمال يشترك فيها الجميع من معارضة وموالاة، لكن ما لا يعلمه الكثيرون هو أن القوى المتصارعة وعلى رأسها إيران، ترفض التخلي عن أطماعها في المنطقة، وبالتالي فهي توظف الجميع وقوداً لحروبها التي لا ترغب بخوضها بشكل مباشر، وهو ما يعمق الأزمة الإنسانية ويفاقم المعاناة ويوقع الناس في فخ اليأس والإحباط، ويدفعهم للبحث عن أي أمل يتعلقون به والقبول نهاية المطاف بما يقدم لهم من تسويات مذلة.
يعتقد البعض أن إيران غير راضية عن الهدنة، وأن عدم التزام معسكرها بما تم الاتفاق عليه قد تسبب بأزمة بينها وبين روسيا، وأن الخلافات بينهما في تصاعد، لكن الحقيقة تكمن في الدهاء الإيراني الذي لا يفوت فرصة لاقتناص المكاسب، وبالتالي فإنها وبعد حلب وجدت الفرصة سانحة لتحقيق انتصارٍ جديد في وادي بردى، ولا شك أن هذا الهدف لا يتعارض مع الرغبة الروسية بإنهاء حالة المقاومة أينما وجدت وبسط سيطرة النظام وحلفائه على كامل الأرض السورية، الأمر الذي يسهل مهمة فرض التسوية التي ترغب بها.
لعل ما سُرب من مشاهد لانتشار قوات الشرطة العسكرية الروسية في حلب بمشاركة عناصر من حزب الله، يفضح كافة الروايات التي تقول بوجود خلافات بين روسيا وإيران، بل ويؤكد التحالف العضوي بين الطرفين، فروسيا ما كانت لتستطيع إخضاع حلب من خلال القصف الجوي فقط، في حين أن ميليشيات الأسد وإيران ما كانت لتستطيع التقدم على الأرض لولا الغطاء الجوي الروسي، وهو ما يوضح طبيعة العلاقة التكاملية بين الطرفين، وبالتالي فإن ما يحدث من خروقات لا هدف له سوى ابتزاز الموقّعين على الهدنة وإجبارهم على المضي في تقديم المزيد من التنازلات، خاصة أنهم قد أحرقوا مراكبهم وما عاد بإمكانهم العودة إلى الوراء.
حزب الله وفي معرض رده على تصريحات وزير الخارجية التركي الذي قال: إن "كل المقاتلين الأجانب يتعين عليهم أن يغادروا سوريا، ويتعين على حزب الله العودة إلى لبنان"، بادر وعلى لسان رئيس مجلس الحزب السياسي "إبراهيم أمين السيد" إلى التصريح بأن "ميليشيات الحزب في سوريا ليست موجودة هناك بقرار تركي ولن تغادره بقرار تركي".
من المتوقع أن تنطلق محادثات "الأستانة" في كازاخستان، بتاريخ الثالث والعشرين من هذا الشهر، وخلال هذه المدة حتى بداية المحادثات قد نشهد الكثير من التطورات التي ربما تنسف العملية برمتها، خاصة في ظل الخروقات المستمرة للهدنة من قِبل المعسكر الإيراني، إضافة لوجود فصائل لا يستهان بقوتها، ترفض الهدنة وما يجري الحديث عنه من تسويات سياسية، وبالتالي فإنها قد ترص صفوفها في مواجهة محور التسوية.
إن ما يفقد الثقة بالهدنة الموقعة ليس فقط وجود وثيقتين مختلفتين للاتفاق، بل عدم صمود الهدنة ولو لساعات، الأمر الذي يثبت وبما لا يدع مجالاً للشك أن الهدنة ليست سوى صك استسلام وفخ أريد منه تصفية الثورة وقتل أي روح للمقاومة لدى السوريين، فلا هم احترموا وقف إطلاق النار، ولا هم سمحوا بدخول مساعدات إنسانية للمناطق المحاصرة؛ حيث ذكرت الأمم المتحدة، على لسان وكيل أمينها العام للشؤون الإنسانية "ستيفن أوبراين"، أنها لا تزال بانتظار رد النظام على طلبها بالسماح لها بإدخال قوافل إغاثية للمناطق المحاصرة، وهو ما يطرح السؤال المحوري حول الثمن الكبير الذي قدمته فصائل المعارضة المسلحة مقابل هذه الهدنة، خاصة أنها وافقت على أن تكون معارضة لنظام مجرم اعترفت به ومنحته شرعية لا يستحقها، في حين أنَّ الوثائق الموقعة لا تشير من قريب أو بعيد لتنحي أو إسقاط الأسد، ولا لقضية الإفراج عن الأسرى والمعتقلين، وبالتالي فإنَّ أكثر ما نخشاه هو أن تكون التسوية مجرد وسيلة لتجنيد الفصائل الموقعة في باسيج إيران السوري المسمى "الفيلق الخامس اقتحام".
إن الموافقة على استثناء أي جزء من الأرض السورية من الهدنة، هو موافقة ضمنية على إبادة عشرات بل مئات الألوف من السوريين، خاصة أولئك الذين يعيشون في مناطق سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة فتح الشام والفصائل المتحالفة معها.
كم هو مؤلم ومحزن أن نشاهد البعض يضع يده بيد قاتل شعبه، في حين أنه يستبعد أي نوع من أنواع التلاقي والتنسيق مع إخوة الدم والعقيدة، بل وعلى استعداد حتى للتحالف ضدهم وقتالهم، فالمشاريع كثيرة لم يطبق أو يعتمد أي منها بعد، وحتى ذلك الحين فإن الكثير من الفصول الدامية ما زالت قيد الانتظار، وليس أهمها استيراد الفودكا الروسية.
لقد خدع الكثير من السوريين بهذه الهدنة، فظنوها قراراً دولياً يشمل كافة الأراضي السورية وينهي الحرب المستعرة فيها منذ سنين بجرة قلم وعلى قاعدة لا غالب أو مغلوب، خاصة في ظل الترويج لمقولة إن جلوس بعض الفصائل على طاولة المفاوضات هو نصر استراتيجي وفتح مبين، في حين أن الهدف الحقيقي وغير المعلن منها كان ولا يزال، دق إسفين بين أبناء المعسكر الواحد من السوريين، وتماماً كما حدث إبان معارك فك الحصار عن حلب، لهذا وطالما بقي التشرذم هو سيد الموقف، فإن الحرب لم ولن تضع أوزارها في المستقبل المنظور، وهذه هي الحقيقة المرة التي يجب أن نعيها جيداً.
لقراءة المقال من المصدر اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.