"كبرت، ولم يعد من حق أحد أن يقرِّر لي ما أقرأ، لا أبي ولا شيخ الجامع، ولا السيدة المحترمة مديرة الرقابة".
كنت أقرأ المقال على صفحة كاملة ودموعي تسحّ من الضحك، فقد انتقم لي الكاتب من كل الرقباء، وأولهم والدي -حفظه الله- السهران ساعتها في الغرفة المجاورة.
كان المقال للراحل الكبير صلاح حافظ بصحيفة أخبار اليوم المصرية، تتصدره صورة كاريكاتيرية له، يقرأ مختبئاً تحت السرير. مناسبة المقال كانت تفعيل مديرة الرقابة، نعيمة حمدي وقتها لقانون فحص الكتب والشرائط في المطار، ما يعني وفقاً للأستاذ صلاح- مصادرة الكتب التي اشتراها المواطن في سفره لتفحصها الرقابة، ثم إعادتها إذا "طلعت سليمة".
ومثلنا جميعاً هرب الرجل من والديه ومدرِّسيه وإمام مسجده. هرب من الدولة كلها، وقرأ ما شاء في العتمة والحمام وبير السلم.
من وقتها تسير الدولة على خطى الرقابة الحديدية في السبعينات، ومع تعاقب الديكتاتوريات البائسة حتى العصر الجديد الذي نعيشه منذ سنوات، تغير كل شيء إلا الرغبة الجامحة في الوصاية. ما زالت السلطة مؤمنة بأن الشعب "عذراء قاصر في خدرها"، يجب على الحكومة أن تطعمها المعلومات بالملعقة على قد الفهم والشوف. ولم تعد الرقابة على المصنفات تكفي لحماية صورة الدولة، فحلَّ محلها آلة جهنمية معقدة، تجمع الإعلام والقانون والتشريع والفوتوشوب في "شَرْبة" واحدة.
يلتهم المواطن أطباق "التوك شو" الموحدة منزوعة الدسم، أطباقاً مسمومة بأكاذيب فاضحة، وتسريبات تَصِم عصرنا بالعار وانتهاك الحرمات مجاناً، والسطو الرخيص على خصوصيات الناس.
ومن يهرب من "قنوات الحبايب" إلى قناة مارقة، ويشاهد البرادعي مثلاً، يحتاج إلى تصحيح فوري. تتحرك جحافل الإعلام والسياسة والقانون في الدولة المهيبة لتسحب من البرادعي جنسيته، وأهليته، ومعاشه، وتصِمه بالخيانة وتسليم العراق زمان، والتحريض على مصر الآن، وبالعمالة للإخوان دائماً. الإخوان الذين يضعون البرادعي حتى الآن في زمرة آل يوليو من مصاصي الدماء.
وماذا لو لم يكتف المواطن بوجبات التوك شو الفاسدة، وتجوَّل بين بساتين فيسبوك وتويتر، حتى يعرف أكثر؟ بعض الجهات في الألفية الثالثة تتوهم إمكانية السيطرة على الشبكة العنكبوتية، ومنع أخبارها هناك، لكن من ستلاحق؟ الإعلام بحمد الله تعالى كان أمانة في أيدي من لا يستحق، وهم الصحفيون أمثالنا، فأعاده الله لعامة الناس من شعوب الفيسبوك وتويتر ويوتيوب. والمجد للمجهولين.
كل ما نلهث فيه، متخلِّفين عن الكوكب بنصف قرن، من قوانين تنظيم الإعلام وقرارات حظر النشر في القضايا، أو عن فئة ما من المجتمع، محض أباطيل، وآثار قد تنفعنا لدى عودة السياح.
وكل ما نسعى في البرلمان والقضاء لإصداره من قرارات الحرمان من الجنسية المصرية المقدسة، وثائق فكاهية سيكون مصيرها متاحف تضم ملفات جرائم دنشواي وريا وسكينة. وثائق ستشهد بأن أهل مصر الحاليين يتخلَّون عن فضائل الحكمة، ويستجيبون لغواية قتل الذات، وتفخيخ المستقبل بالديناميت.
عندما كانت الرقابة تشتد في الثمانينيات، تركنا كتب موسى صبري وأنيس منصور تفقد ألوانها عند باعة الصحف، ونسخنا النصوص الحريفة لنجيب سرور ومظفر النواب وعبدالرحمن الأبنودي. تبادلنا قصائد ناظم حكمت وأهجيات الشيخ إمام ونجم، وربما سافرنا بقطار الدلتا لننسخ قصيدة درويش في هجاء العرب بعد فضيحة بيروت 1982.
اشترينا بعض كنوزنا المحرمة من مكتبة مدبولي نفسها. كانت بميدان طلعت حرب، الأشهر والأكثر انتشاراً في الوطن العربي. تسأل البائع بعد أن يأنس إليك من زياراتك العديدة: هل لديك "الخبز الحافي" لمحمد شكري، فيهز رأسه، مضيفاً: وبرنامج الحزب الشيوعي السوري لو عايز.
من الذكاء أن تتوقف الوصاية الحكومية الساذجة على العيون والعقول في عصر ما بعد الإنترنت. لا يليق بأية جهة محترمة في هذا البلد أن "تبهدل" نفسها وراء الشعب، وتزاحمه فيما يجب أن يقرأ ويكتب ويأكل، فالإنترنت يسخر من كل أنواع الاستبداد الرخيصة، القائمة على عصا الملاحقات والحبس، كما سخر صلاح حافظ من المديرة السابقة للرقابة. ففي مقاله ساق أسباباً كثيرة لرفضه اطِّلاع الرقابة على الكتب التي يشتريها في أسفاره، لكن أجملها كان إشفاقه على الرقيبة من هول ما قد تراه في ثنايا كتبه المستوردة، فالإنسان في آخر العمر قد يرتد مراهقاً نزقاً، وهي ست محترمة يجب عدم تعريضها لصدمة من هذا النوع.
"من طالت عصاه قلت هيبته"، كما قال المثل المحفور على جدران الكهوف السحيقة للإنسانية، حتى لو كانت عصا أبي أو شيخ الجامع، أو السيدة الحديدية مديرة الرقابة على المصنفات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.