هي مهنة صاحبها مكروه من الشعب، محتقر من السلطان، وإن كان الأخير لا يستغني عنه طالما كان مستبداً، مقولة الحيطان لها آذان لم تبتدع إلا توقياً منه، وبعداً عن دسائسه، ألم تعرفه إلى الآن؟ إنه البصَّاص، جاسوس الحاكم، ومرهب الشعوب، ومبتز الأغنياء، يصنعه الحاكم المستبد على عينه، ولا ينام إلا وفي يده تقاريره، إذا انتشرت طائفته وعرفت الرعية بوجودهم، فقُل على هذه الدولة السلام.
أنت في الغالب لا تعرف أشخاصهم، ولكنك توقن بوجودهم، هم كالرائحة القذرة تتنفسها ولا تراها، عندما تخيّم شباكهم غير المرئية على المجتمع، فإنها تكبِّل حريته، فتصبح الكلمة بحساب، والنظرة بحساب، الخوف يصبح سيد المجتمع.
الأب يخاف أن يقول ما في نفسه أمام أبنائه، ليس خوفاً منهم بالضرورة، ولكن خوفاً ممن قد يتحدثون أمامهم، الناس يخفضون أصواتهم حتى داخل بيوتهم، كلما زادت قوتهم في الدولة، كلما ضعفت هذه الدولة، فقوة البصَّاصين لا تكون إلا من ضعف الدولة، فهم آكلو الدول، ومفتّتو المجتمعات.
التجسس على عورات الناس مهنتهم، وشريفهم هو أكثرهم لؤماً وأحطهم طبعاً، الوشاية عندهم من مكارم الأخلاق ومما يمدحون الرجل به منهم، الصداقة والشفقة عندهم من معطلات العمل؛ لأنها قد تنمي بداخل البصَّاص أخلاقاً مذمومة عندهم مثل الوفاء وحفظ السر.
منهم المحترف المتفرغ الذي لا يعرف غير البصاصة عملاً، وهو يلف ويدور طوال النهار، يمشي في الأسواق ويجلس على المقاهي، ولا همَّ له إلا تسقط الأخبار ومعرفة المعارض من المؤيد، وهو بالطبع بارع جداً في فتح مجالات الحوار مع أي شخص، فهو كما وصفه جمال الغيطاني في رائعته الزيني بركات "فحاماً عندما يتحدث إلى الفحَّامين، عطاراً نابغاً في العطارة عند التحدث إلى العطارين، ساخطاً عند استماعه إلى الساخطين، مستغفراً تائباً عندما يسجد مع التائبين"، وعندما ينجح في كسب ثقة من يحدثه يبدأ على الفور في نصب الحبائل له في طيات حديثه، حتى يبوح المتحدث المسكين بمكنونات ضميره، ويشكو له من مر العيش وجور الحاكم، وإذا وصل المغفل إلى هذا الحد، فإن البصَّاص يكون قد نجح في مهمته على أتم وجه، وما عليه الآن إلا الإبلاغ عن هذا المواطن الشكَّاء.
ومنهم البصاص غير المتفرغ، وهذا يكون شخصاً يمتهن أي مهنة تتخيلها، سواء تنتمي لأعلى السلم الاجتماعي أو أسفله، وتكون مهمته الأصيلة التجسس على أبناء مهنته ومجتمعه، وكتابة التقارير الوافية عن كل شخص حوله، وقد يستخدم لغرض آخر وهو بث الإشاعات التي يراد لها أن تنتشر بين أفراد الشعب، وهذا النوع من البصَّاصين يعتبر أحطهم على الإطلاق؛ لأنه هنا يشي بأقرب الناس له، والذين قد يعتبرونه أخلص لهم وأحب الناس إلى قلوبهم، هو خلية سرطانية لا هم لها إلا القضاء على الجسم الذي تنتمي إليه.
وكلما توغَّل البصَّاصون في كل طوائف المجتمع ودرجاته، ازداد نجاحهم، الأمر الذي ينبئك بقرب زوال النظام الذي يطلق هذه الكائنات على الشعب؛ لأنه لا ينظر إلى الشعب إلا كمصدر تهديد، يجب أن يحمي نفسه منه.
أما الدول القوية التي تقوم على أساس العدل المتين، فلن تجد فيها مثل هذه الكائنات الشائهة، بل إن هذه الدول تصرف همَّها الأول لحماية شعوبها من الأخطار، وتفقد احتياجات رعاياها، مثلما كان الفاروق عمر يعس بالمدينة ليلاً خشية أن تكون مهام وظيفته قد شغلته عن أحد هؤلاء الرعايا.
الدول القوية العادلة يكون بطلها هو العساس الذي يسهر على مصالح الشعب ويحميهم من أي خطر قد يحيق بها، أما الدول المأسورة في قبضة طاغية فيكون البصاص فيها هو السيد، الذي بإشارة منه قد يزج بأشرف الشرفاء إلى غياهب السجون أو ظلمات القبور.
أسال الله أن يخلص بلادنا من كل بصَّاص.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.