الخيال مطيَّة العاجزين، والأحلام جنة المتقاعسين، وليس على الكسول العجول إلا أن يغمض عينيه ويبني قلاعاً من الرخام على بساطٍ من الغمام.
لم يكن الدون كيشوت دي لامنشا يشعر بالأسف على الزمان الذي يقضيه منهمكاً في محاربة طواحين الهواء أو قطيعٍ من الأغنام يثير غباراً ليحمي الحياة البشرية ويعيد دور الفرسان الجوالين البائدين وذلك بمحاكاتهم والسير على نهجهم حين يضربون في الأرض ويخرجون لكي ينشروا العدل وينصروا الضعفاء، ويدافعوا عن الأرامل واليتامى والمساكين، لم يكن يعلم أنه مصابٌ بمرضٍ نفسي، ولم يكن يعلم أن طواحين الهواء أصلاً مفيدة لا ضارة، ولم يكن يدرك طبيعة عدوه أصلاً رغم سمو أهدافه ونبل بغيته.
يذكرني الدون كيشوت برجل أضاع قطعة نقدية في الشارع المظلم، فذهب ليبحث عنها تحت المصباح على الرصيف، وما فطن أن يبحث في المكان الصحيح لا المكان المريح.
لكن.. بماذا يختلف القائد الداعشي -الذي يستعدي كل الأرض ويستدعي جيوش الأمم كلها- عن الدون كيشوت؟ وبماذا يختلف أتباع الدواعش عن سانشو بانزا الذي فاوضه دون كيشوت على أن يكون تابعاً له وحاملاً لشعاره، ووعده بأن يجعله حاكماً على إحدى الجزر حين يفتح الله عليه، فصدَّقه ووضع خرجه على حماره وسار خلف سيده الجديد.
ما الفرق بين أن تذبح قومك بسكين وأن تحارب طاحونة برمح؟ ما الفرق بين أن تحارب قطيعاً من الأغنام أو أن تسوق قومك للذبح كالأغنام؟
من حيث الجنون لا فرق، لكن الفرق في النتيجة.
لا أجزم، ولكني مقتنع بشكل أو بآخر أن الفكر الداعشي هو خليط بين السيكوباتية السادية وجنون العظمة والهوس الباروني، وليست ابناً شرعياً لأي فرقة دينية ولا فكرة حزبية.
إن العقل الجمعي كان جديراً أن ينتج لنا بيئات كاملة تتبنى الداعشية أو قرى أو أسراً على الأقل، لكننا حتى في معقل داعش لا نكاد نجد تلك المجموعات المخدرة التي تسلم نفسها للحكم الداعشي العاضّ.
أعوام من القمع والتهميش ورفع البنادق لم تكن كافية لزج شريحة كبيرة من الناس في أتون الغلو، فلما جاء الغلاة بحكمهم القهري وملكهم الجبري وجبروت الملك الذي يحاولون إظهاره لم يستطيعوا أن يقنعوا عوام الناس بأنها خلافة راشدة على منهاج النبوة.
إن الصورة الوردية التي رسموها في قلوبهم للجناب العالي لكلمة خلافة يرتطم بداعش السوداء البغيضة، فلا هم وجدوا فيها علم أبي بكر، ولا عدل عمر، ولا حكمة عثمان، ولا كرامة علي، ولا رأفة عمر بن عبد العزيز.
فأي رشد في سَوق الناس إلى المسالخ كالأغنام وتصوير الجرائم ونشرها على الإنترنت والإعلام؟ أي رشد في دولة تذبح شعبها ونيران تحرق أهلها؟ أي رشد في ازدراء وتسفيه كل ما خلق الله سوى أنهم يزكون أنفسهم؟ أي رشد في التفنن في القتل والاستمتاع بالتعذيب والتخريب؟ أي رشد في إعادة تمثيل كل جرائم البشرية فلم يبقَ لداعش إلا أن تحرق من ترميهم بالردة في أخدود أو أن ترمي كتب المخالفين في نهر الفرات ليصبح أسود من لون الحبر؟
إن المعذب حين يعذب ضحيته هو أمام مرضَين وهوسَين؛ الأول أنه سادي تحدثه نفسه أن القتل سبيله الوحيد للحياة، والفوضى هي التي تخلق التنظيم والتفجير سبيلاً للتنوير.
والمرض الآخر أنه لا يؤمن في قرارة نفسه بيوم الحساب، فهو يأخذ حقه بيده، ويعذب بالنار من يتخيل أنه عذبه، أو نال من كرامته أو نال من رموزه القبيحة؛ بل يتجاوزون ذلك حين يقتلون بالشبهة، ويقولون نحن نقتل والله يحاسب، والقتل إن شُرّع فإن التعذيب لم تشرعه إلا السادية، ولم ينتهجه إلا الحشاشون ومحاكم التفتيش.
إن عامة الناس الذين ضربتهم الأحداث في سوريا ضربة قوية على أم رؤوسهم ثم تابعت عليهم اللطم والركل من كل الجهات، كلما فتحوا باباً سدَّه العالم في وجههم خلال خمس سنوات من الضياع والقتل والنزوح والتشريد، هؤلاء الناس بلا شك قد جنحوا من مطالب الحرية والعدالة والمساواة والتنمية إلى مطالب تتأرجح بين الثأر والانتقام واستئصال الآخر أو إقامة المدينة الفاضلة.
فكرة إقامة دولة عابرة للحدود تحكم تياراً عريضاً من العامة لم تنفك عن فكر الجماعات الراديكالية يوماً، لكنهم يتخبطون استراتيجياً، فبين من يجعل فتح العالم هدفاً بعيد المدى بعد سنوات من الإعداد والجهاد، ومن يجعله هدفاً استراتيجياً فيتوجه بسكين لفتح روما وهو لا يستطيع إدخال رغيف من الخبز إلى دوما.
كل ما سبق هو تفكير نمطي اعتدنا عليه في القرن الماضي، لكن التقليعة الجديدة ليست جعل الغايات أو الأهداف خُططاً استراتيجية أو لوائح تنفيذية.
التفكير الجديد هو نسف كل ما سبق، والاعتماد على التكفير والتفجير والفوضى الخلاقة لإقامة مدينة فاضلة لنخبة من الناس فقط.
إن الناس المتشوقين للدولة العادلة حين يصطدمون بما سموه الدولة الإسلامية (داعش) يهربون في تفسيراتهم إما إلى الأمام أو الخلف، وهو أيضاً نوع من الخيال الذي افتتحت به المقال.
الهاربون إلى الخلف ساقوا كل الأحاديث والروايات التي جاءت عن الخوارج والغلاة، وقالوا ببساطة إن داعش دولة خوارج رموها بذلك واستراحوا، وهم وإن أصابوا شيئاً من الحقيقة إلا أنهم أصابوا عضواً بعيداً عن الكبد، فلقائل أن يسألهم عن صلاة داعش وقراءتهم وعبادتهم وعن استدلالات داعش وأدبياتهم؛ ليتبين أن للخوارج أخلاقاً لا يحسنها الدواعش.
أما الهاربون إلى الأمام فقد سافروا بخيالهم إلى آخر الزمان، وجلسوا في بيوتهم ينتظرون خروج الدجال ونزول ابن مريم عليه السلام، وفسروا كثرة الحروب والخسف والهرج بأنها إرهاص بالقيامة، وما نظروا جيداً في التاريخ؛ ليعلموا أن ما يجري في الشام ما هو إلا صفحة من كتاب ومعركة من حرب وبيت في قصيدة.
وإن أجمع الطرفان على أن داعش منهاج على خلاف النبوة، فربما كثير من الناس لم يدركوا بعد أن داعش خلافة على منهاج الدون كيشوت، أو على منهاج دراكولا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.