بين حصارين: صناعة الأحلام والآثام

في طولكرم ، كنت لا ترى في دار السينما إلا الشباب والفتيان في معظم الأحيان. إن لم يكن ذلك ترفعاً من الكبار عن ترفيه ملتبس بالهزل، فترفعا عن الجلوس بين فتية صاخبين غير راشدين, كلما جاء مشهد تقبيل، تلقوه بالصفير والتعليقات المبتذلة. وإذا نشب عراك على الشاشة بين البطل الطّيب الخير وخصومه الأبالسة شبوا عن مقاعدهم يصفّقون للبطل ويحرضون ويذمرون على القتال .

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/06 الساعة 02:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/06 الساعة 02:53 بتوقيت غرينتش

ها أنا ذا في موقع ما من سهل طولكرم الذي يمتد تحت التلة التي تقوم عليها المدينة , ويبدأ ضيقاً من مدخلها على الطريق القادم من مدينة نابلس الكبيرة ثم يتسع تدريجاً بين المدينة وجبال قرية شويكة في اتجاه الغرب نحو البحر الفلسطيني المغصوب. فإذا تحرر من الجبال الذي تطوقه من جهة الشمال, اتسع ملء المدى إلى ما وراء الأفق الغربي. ولكن هيهات .. فهو إذ يتسع إلى أبعد مدى يضيق فلا يتسع لقدميك .. حذار حذار من أن يغويك نداء البحر المختبئ وراء الأفق والمدى المفتوح ، فتمشي خطوة وراء " خط الهدنة " الذي يقطع السهل. فوراء الخط رصاصات تنتظر صدرك لتفجر حلمك باحتضان البحر.

قد وصلت الحدّ بين المدينة وأرض البرتقال الحزين الذي اغتصبه الكيان الصهيوني منذ عام 1948. وليس ثمة أسلاك شائكة تردع اندفاعك نحو الأفق الغربيّ. إنما هي علامات متفرّقة هنا وهناك ولوحة في موقع ما كتب عليها " خط الهدنة ". ولأنك يمكن أن تتجاوز الحد قبل أن تنبهك الرصاصات المتربّصة, فالأحوط أن تقف على بعد مسافة آمنة. تنظر وراء ذلك الخط الملتبس, فيمتلئ صدرك بالحزن والغضب والشوق والحنين ورغبة الموت .. أبيني وبين وفلسطين النكبة أن أمشي عشر خطوات دونها الموت الزؤام ؟ وما طيب العيش بعد فلسطين النكبة ؟ تتغلب غريزة البقاء على غواية السهل المفتوح والبحر الذي اعتاد عبر العصور أن يرى إقبال الغزاة ثم إدبارهم. وتؤجل العبور حتى موعد الشهادة. وإذ تذهب ببصرك نحو السماء ترى رفاً من الطيور يتّجه إلى الغرب. فيزيدك المنظر أسى وحنينا .. ويمتلئ فؤادك بصوت فيروز :
سنرجع يوما إلى حينا ..
ونغرق في دافئات المنى ..

يعز علينا غداً أن تعود
رفوف الطيور ونحن هنا !

ولكني هنا ما أزال. أتحوّل بنظري الآن صوب المدينة القابعة فوق التلة, تتخلل دورها الحجرية وحاراتها وطرقاتها أشجار السرو والصنوبر.

وأحاول أن أميز ملامحها من بعد .. وفجأة أشعر بالوحشة منفرداً في مكاني بين حقول القمح والذرة .. وأشتاق إلى دفء المدينة والحياة فيها .. وما هي حتى يحملني شوق المغترب إلى طرقاتها .. أجدني في مكان قصيّ من غربها : شارع المحطّة, حيث كانت تقوم محطة قطار الخط الحجازي قبل أن تتحوّل إلى خراب موحش, وهناك ينقطع عمران المدينة بخط الهدنة الملتف من السهل إلى حدود العمران. وترى شارعاً موحشاً خرباً يمتد عبر الحدود إلى قلب الوطن الضائع, كان يصل طولكرم بالمناطق الغربية حتى البحر, قبل أن يعطّله اغتصاب الوطن. وترى فيه الآن أثر العطالة الطويلة حفراً وشقوقاً انبثقت منها الأعشاب. ترممه مخيلتك وترده إلى ما كان عليه, وما ينبغي له أن يكون .. وترى الحافلات القديمة تسير عليه متجهة إلى الساحل .. ربما ليوم عمل في حيفا, أو لنزهة على شاطئ البحر. ما بال هذه الحدود تحاصرك أينما درت؟ تدير ظهرك لها وتمشي في شارع المحطة الجميل المحفوف بأشجار الصنوبر والسرو .. وتنتصب فيه دور كنا نعدّها أجمل ما في المدينة وأرقاه. تتناسى للحظة ما استدبرته من محطة القطار الموحشة والطريق المعطل الذي يعبر الحدود ولا يعبر فيه أحد.

فما زال في الحياة ما يستحق الحياة. والحلم الكبير لا يجُبُّ الأحلام الصغيرة. والحد الذي يطوق العمران وراءك لا يملك أن يصادر أشواق الصبا التي يبعث جذوتها شارع المحطة الجميل. فهنا تقطن أجمل ثلاث فتيات في المدينة : أختين وصديقتهما. وما أحسب فتى لم يشدّ الرحال إلى ذلك الحي, لعله يحظى بنظرة لن ترجع عليه إلا بحسرة .. فقد أحبهن الجميع, ولم يحببن أحداً منهم .. كن حوريات في أنظارهم ، وكانوا مجرد " زعران " في أنظارهنّ ! لا يزيدهن الجمال إلا تعاليا وحياءً وترفعاً. وأشهد أني لم أرَ واحدة منهن تلتفت إلى أحد، مهما يجتهد في لفت الانتباه. ولكل من " الزعران " أسلوب يحسبه مجديا. فهذا يبالغ في تصفيف شعره ودهنه وإرسال غرته إلى الأمام, ويطوق عنقه بمنديل معقود, ويكشف أعلى صدره ويرتدي بنطالا ضيقاّ قصيراً يرتفع عن كعبيه على الطراز الشائع, ويرش جسمه بعطر رخيص يحسبه عند الغيد شيئا ، ويمشي مستعرضا نفسه وهو يهز بيده سلسلة تلتف على إصبعه ثم تنفلت عنها متقمصا أحد فتيان الشاشة مثل أحمد رمزي وربما عمر الشريف. وقد يدندن بأغنية رومانسية لعبد الحليم.

وهذا آخر يؤثر المظهر الرسمي الجاد الذي يوحي بالمستوى اللائق بحسناوات جمعن بين الجمال والمستوى الاجتماعي الراقي. فيفرق شعره كما يليق بأبناء المحترمين, ويرتدي بذلة وربطة عنق وحذاءً لامعا . فهو أيضا " ابن ناس " .

وهذا " أزعر " أدرك أن أمله في الوصال كأمل إبليس في الجنة. فقنع بالتفاتة ولو كانت التفاتة إنكار, وابتسامة ولو كانت ابتسامة سخرية. فإذا مررن به في طريقهن إلى المدرسة أو منها, تقمّص دور المهرّج، فأطلق التعليقات والنكات البذيئة والضحكات الصاخبة.

وهذا آخر اختار أن يصنع لنفسه هيئة الرومانسي الشاحب الهائم الذي أهمل مظهره ، لا لانعدام القدرة, ولكن لأن مخبره يغني عن مظهره, وقد صرفته الهموم العظيمة والقلق الوجودي والتساؤلات الكبرى والمشاغل الفكرية والثقافية عن الاعتناء بالمظاهر التافهة وصغائر الأمور !

وهذا آخر قد بدأ في تعريف نفسه شاعراً وأديباً. لم لا وقد نشرت له صحيفة الجهاد بضعة أبيات في زاوية بريد القرّاء؟ فهذه أول خطواته إلى الصفحات الرئيسة, ومنها – إن شاء الله – إلى المجلات الأدبية الكبرى, ومنها إلى الدواوين المطبوعة, ومن يدري ؟ ربما صار علماً في المشرق والمغرب, وصار تقرّب الحسناوات إليه طموحاً مستعصياً إلا على المحظوظات, أما من رفضت عروض عشقه وهو في أول الطريق إلى المجد, فلسوف يأتي يوم تدرك فيه أيّ فتى أضاعت, فتعض أصابع الندم على ما كان متاحا لها ثم صار مستحيلا. أهذا الذي كانت تظنه فتى كأي فتى, وهو في غيب المصائر والأقدار عظيم !

وهذا آخر قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت وهو يحاول حباً لا رجاء منه. فجلس يفكر ويقدر ثم ينظر ثم يعبس ويبسر, ثم يقبل ويدبر. فلا يجد سبيلاً للفوز بقلب الحورية المترفعة إلا بحدث درامي قوي يبرز فيه فارسا من عصر الملاحم تتجلى فيه أسمى صور الشهامة والشجاعة والنخوة . ولكن ما السبيل إلى ذلك ولا حرب يخرج منها بطلاً تهتف باسمه العذارى, فإن لم يكن تواضعت أحلامه إلى مظاهرة سياسية ضد أذناب الاستعمار, يقودها محمولاً على الأكتاف, وتقتحم مدرسة " العدوية " للإناث لتخرج الطالبات من صفوفهن وفيهن فتاة أحلامه, ثم لا بأس بأن يسجن في سبيل الحرية لأيام معدودات لا يلقى فيها عذابا شديدا ولكنها تكفي لأن يخرج من السجن مرفوع القامة, يشير إليه الناس وتتهامس البنات به تقديراً وإعجاباً. وإذا لا شيء من ذلك وضاقت به الأسباب, ازدادت أحلامه تواضعاً, فتخيل أنه يصادف فتاة أحلامه في الطريق, ليجد أن أحد " الزعران " يتعرّض لها بقلة الأدب والمضايقات فتأخذه النخوة العربية, وتحركه الغضبة المضرية, ويدعوه داعي الفروسية ، فيشمر عن ذراعيه وما هي حتى يصرع " الأزعر " الدنيء على ما أوتي من بسطة في الجسم. ولما كان هذا الاحتمال بعيداً في الواقع فلم لا يتفق مع صاحب له كي يقوم بدور " الأزعر ", فيتسنى أن يؤدي هو دور البطل على وفق خطة مسبقة يرضى بها صاحبه أن ينهزم له .

ولكن أي فتى آخر يمكن أن يرضى بهذا الدور الخسيس والوصمة المترتبة عليه؟ وما يدريه لعلّ الأمر يتفاقم وتخرج الأحداث عن النص فيتدخل بعض أهل الفتاة. وتلك لعمر الله طامة كبرى. الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ, إذ يتبرأ صاحب الدور المساند من صاحبه ذي البطولة المطلقة : " هذا الذي أضلّني السبيل فاجعلوا له ضعفين من العذاب "! وإذ يجد الحالم المسكين أنه لا يهتدي سبيلا للفوز بقلب الحسناء. يؤجل التدبير إلى يوم آخر. وقد يعزّي نفسه بأن الله إذا شاء فعل .

تعددت الوسائل والإخفاق واحد. فالفتيات الثلاث اللواتي أحبهن الجميع ، لم يحببن أحدا ولم تلتفت إحداهن إلى أحد . ولا أراني الآن وأنا في شارع المحطة الذي تهفو إليه القلوب المعذبة ، أحظى بأحسن مما حظي به غيري . ولا ثمّ غير طيف عابر خلف زجاج الشباك الذي تطوّقه شجرة الياسمين المتسلّقة . ولا أدري أهو طيف الأم أم البنت أو حتى الأب, والعياذ بالله! فلأتابع السير نحو قلب المدينة في اتجاه مدرسة خضوري الزراعية. هذه أولاً مدرسة خالد بن سعيد التي درست فيها صفاً إعداديا واحداً, تقع أدنى مرتفع حادّ وتقوم أعلاها مقبرة المدينة, ويليها حيث يستوي المرتفع مدرسة عمر بن عبد العزيز التي اصطلحنا عليها باسم " العمرية ", وهي المدرسة التي درست فيها الصفوف الابتدائية الثلاثة الأولى .

وإذن فالمقبرة بين مدرستين إحداهما أدنى المرتفع وأخراهما أعلاه. وأشباح الموتى لا تقوم في النهار! فلم تكن رهبة الموت لتردعنا في نهار الدراسة أن نتسرّب من ساحات المدرسة إلى المقبرة في وقت الفسحة, لنختلس " شفطة " من سيجارة تتنقل بيننا. وما كنا نملك ترف انتقاء نوع السيجارة. وما كانت ذائقتنا قد ارتقت إلى مستوى التمييز بين الأنواع . فلتكن من سجائر " لولو " الأكثر رخصاً والأقل جودة والأشدّ لذعاً للفم والحلق. فإن توفرت لنا سيجارة " كمال " الأكثر جودة فنعمت هي. أما سيجارة "غولد ستار" الفاخرة فمطلب مؤجل إلى زمن آخر حين بلغناه كانت هذه السيجارة قد غابت عن الوجود وتوقف إنتاجها. وحل محلها أنواع أكثر جودة وفخامة. حسبنا الآن من السيجارة ذلك "الدوخان " اللطيف الذي يخامر الرأس, ولذة الاختلاس, ونشوة عصيان السلطة, ومتعة التجريب والمغامرة الخطرة, بعيداَ عن عيون الرقيب المدرسي أو العائلي.

كيف غدت المقبرة ساحة الحرية بين مدرستين تضجَّان بالحياة ؟ تلك واحدة من المفارقات الكثيرة التي ستواجهها في قابل أيامك. ولكنك لا تفوز دائماً في لعبة القط والفأر التي تحكم علاقتك بمدير المدرسة. وإذ تنقضي الفسحة وتعود للاصطفاف في ساحة المدرسة تمهيداً لدخول الصفوف من جديد, يبرز المدير يحف به أركان حربه وبإحدى يديه عصا وبالأخرى ورقة يقرأ منها أسماء الزعّار والدعّار وأصحاب الشر والمعاصي الذين استتروا بظل الموتى ليقترفوا إثم التدخين, فحق عليهم القول و التأديب والتعزير والعذاب على مشهد من زملائهم ليكونوا لهم عبرة. وإذن, فإن جاسوساً مُجَنّداً قد وشى بالعصاة. وعلى من يسمع اسمه أن يخرج من الصفوف ويتقدم إلى حيث يقف المدير لينال جزاءه العادل: ضربات شديدة بعصا الخيزران المرنة اللاسعة على ظاهر اليد وباطنها. ولكن لعبة صراع الإرادات تبقى مستمرّة وقت العقاب. إرادة المدير أن يوجعك حتى تصرخ أو تتأوَّه أو تناشد وترجو وتعد بالتوبة. وذلك في عرف التلاميذ ما يسقط مروءتك وتباشير رجولتك, ويغري بك المتنمّرين.

فلتكن إرادتك أن تمدَّ يدك للعصا بسرعة ودون تردد. وتتلقى الضربات الموجعة دون أن ترتدّ يدك ولو قليلاً, بل دون أن تنقبض ملامحك. ففيك من الرجولة والصبر ما يقهر الألم وإرادة الجنرال المدير. وإنك لتعلم أن صبرك على هذا النحو يغري المدير بأن يبالغ في قوّة الضربات وعددها ليبلغ منك تلك الآهة المذلّة. ولكن: المنايا ولا الدنايا. فإذا انقضى العذاب وعدت إلى مكانك في الصفوف فلا ينبغي لك أن تنفخ في يدك الملتهبة المحمرة التي يكاد أن ينفجر منها الدم, لتبردها من لهب الوجع. فعيون زملائك ما زالت تلاحقك لتحكم فيك. فإذا نجحت في هذا الاختبار حظيت باحترامهم وارتفعت مكانتك بينهم, وليذهب رأي المدير والمعلمين فيك إلى الجحيم. فالسلطة الغاشمة هي الجحيم. وتذكر الآن في وقفتك من المدرسة أن العدوّ الغازي من ورائك, خلف الحدود التي قطعت وطنك, وأنّ السلطة الغاشمة من أمامك متشخّصة في المدير الذي يلهب اليدين بالعصا, وربما انهال بها على الجسم كله دون تمييز. وهو يحسب أنه يؤدبك كما ينبغي للأب الراعي حتى يستقيم أمرك ويعتدل اعوجاجك مبكراً, قبل أن تستمرئ الفسوق والتمرد والعصيان, فيذهب مستقبلك هباء. فالنار من مستصغر الشرر. والعصا لمن عصى. وهذه العقوبات الجسدية و المعنوية باطنها الرحمة وإن كان ظاهرها العذاب. وهو لا يفتأ بين الفينة والأخرى يتمثل قول الشاعر :
و قسا ليزدجروا ومن يك حازماً
فليقس أحياناً على من يرحم

فإن فاتك اليوم هذا المعنى من قسوته, فلسوف يأتي يوم تدركه فيه, فتسترجع ذكراه بالحب والخير والشكر والعرفان. وتطلب له الرحمة حياً وميتاً كفاء ما أبدى لك من الرحمة المحتجبة بالقسوة الرادعة, والغلظة الرائعة, والسلطة الجائعة.

وقد جاء ذلك اليوم. ولكن هيهات هيهات. فأنت اليوم أشد رفضا ونفورا وإنكاراً لذلك المعنى المزعوم ، ولتلك السياسة التربويّة المتخلفة . فكم من تلميذ ضاق بذلك الإذلال والقسوة, فغادر مقاعد الدراسة من غير رجعة. وقنع من مستقبله ببيع الكعك أو أعمال الحدادة والنجارة ونحوها. فلم تنكسر عصا المدير على جسده الغض حتى انكسرت معها أحلامه وآماله. وكان عليه بعد زمن أن يرى بعض زملائه وقد صاروا أطباء ناجحين ومهندسين لامعين وأساتذة جامعات بارزين, وهو ما زال يكافح من أجل لقمة العيش, لا يرجو أن يذكر بعض هؤلاء أنهم في يوم ما كانوا معه على صعيد واحد. يتقاسمون الأحلام والآمال والخبز والسجائر الرخيصة ويطاردون معا فراشات الربيع, ويستمتعون بكل ما تمنحه لهم الحياة مجاناً : قوس قزح غب المطر ورائحة الياسمين والزنبق البريّ. ويتنافسون للفوز بقلب الطالبة الحسناء نفسها, تلك التي أحبها كل منهم, ولم تحبّ أحداً منهم.

لا، أيها المدير الجنرال, لم ندرك ذلك المعنى. وإذا كانت النار من مستصغر الشرر, فإنها تصلح أن تكون كناية عن معنى آخر: فالطغاة الكبار الذين يبطشون بشعوبهم, هم من الطغاة الصغار الذين يوطّئون لهم ويعدون لهم أجيالاً نشأت على الخوف والخنوع والخضوع. وكلهم, كبيرهم وصغيرهم, على مذهب واحد من الذرائع: إنما نرعاكم بسلطان الأبوة, ونقسو قسوة الحازم على من يرحم, ونحن أدرى بمصالحكم, ونعلم ما لا تعلمون ، وما نريكم إلا ما نرى وما نهديكم إلا سبيل الرشاد! و ثمة أعداء من الخارج يتربّصون بكم الدوائر, فإن رأوا فينا ميوعة وفوضى مالوا علينا ميلة واحدة, فذهب الراعي والرعيّة. سبحان الله! لا يأمن الناس تهديد الغزاة إلا بترويعهم من طرف الطغاة, وهم بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن يستعبدهم الطغاة, وإما يستعبدهم الغزاة. والحق أن الطغاة هم شرط الغزاة !

وأعلم أن الحنين إلى الماضي يحمل كثيراً من الناس على أن يمحوا القبيح من صورة المدرسة, وأن يضحكهم من ذكرياتها ما كان يبكيهم, وأن ينسبوا إليها ما يتمتعون به من مهارات رياضية ونحوية يزعمون أن مدارس أبنائهم الحديثة لا تؤسس مثلها في الأجيال الجديدة.
ويغفلون عن أنّ نظامهم التربوي القديم لم يكن غير ساحة لمعركة البقاء لا ينجو منها إلا الأفضل. وهؤلاء يمكن القول فيهم إنهم تعلموا وتفوقوا وتقدّموا على الرغم من المدرسة لا بفضلها.

وقد يحسب البعض أن النظام التربوي الضيق القاسي, أشد ما يكون على الأقل ذكاء ونباهة. وهو لا شك شديد عليهم, طارد لهم. ولكنه أيضا عدو للعباقرة والموهوبين. ذلك أن النظام شديد الضيق عليهم, لا يتسع لمواهبهم ولا يرعاهم فرادى, ولا يوفر لهم من التحديات العقلية والعلمية ما يطلق استجاباتهم الفريدة. فتجدهم في ملل من منهاج عقولهم أكبر منه. وإذا اختار أحدهم أن يعبر عن مواهبه بما يخرج عن المساحة المألوفة اتهم بالغرور والادّعاء والاستعراض وتحدّي سلطة المعلم المعرفية والرغبة في إحراجه. فيؤثر السلامة حتى يخرج من هذا الحيّز الضيّق. ويتردد أن أينشتاين لم يبد في المدرسة تميّزاً خاصاً يتناسب مع مآله. وقد يتوهم البعض من ذلك أن العبقرية قد حطت عليه متأخراً . ولكن الأمر ليس كذلك يقيناً. فلا ينام الإنسان على حال من الذكاء المتوسّط ، ليصحو عبقرياً. والحال أن النظام التربوي المدرسي لم يكن ليفسح لعبقريته أن تتجلى على وسعها، فكان ما يتلقاه دون قوّة عقله وأقل من أن يستنفد نشاطه وجهده. فما يحتاج الآخرون إلى أيام لاستيعابه، يستوعبه هو في لحظته. ثم يكون عليه أن يغالب الملل في انتظار لحاق الآخرين به. فلما تحرّر من تلك الحدود الضيّقة، انطلقت عبقريته على وسع الكون الذي فكّك ألغازه وأعاد تعريفه، وغيّر بذلك صورة الكون في الأذهان .

لا، لم يحملني الحنين إلى الماضي ولا الاحتفال الوجداني بلقاء طولكرم بعد طول غياب، أن أمحو القبيح من صورة المدرسة. ولكني مع ذلك لن أسمح لهذه الوقفة أن تفسد علي تجوالي في مسارح الصبا وطرق الأحلام. فلأتابع السير منعطفاً إلى مدرسة خضوري الزراعية. سيصبح اسمها بعد حين كلية الحسين الزراعية وسوف تتحول أخيراً إلى جامعة. ولكن مالي والمستقبل، أنا القادم منه إلى الماضي الجميل، إذ كانت مدرسة خضوري كأنها قطعة من الجنة بأشجارها الكثيفة الباسقة, وبسائطها المعشبة, وشوارعها الداخلية النظيفة, وعمائرها الأنيقة، ومزارعها الخضراء التي يحدها خط الهدنة مع الكيان الصهيوني. وكان دخولها حصراً على طلبتها ومعلَمّيها وموظفيها، فلا يدخلها سائر الناس إلا في مناسبات مخصوصة كمباريات كرة القدم التي تقام على ملعبها العشبيّ الذي تحيط بأضلاعه أشجار السرو. فكنا نحتشد لنشجع فريقنا الكرمي ضد خصمه الضيف. وكان مدير المدرسة مشهوراً بالصرامة والضبط والربط على قلة ما نشاهده. يغفر له أنه كان له ابنتان في مثل أعمارنا تنافسان الحوريات الثلاث نضرة وجمالاً. ولم يكن حظ الفتيان منهما بأحسن من حظهم من الحوريات. على أن ذلك لم يمنعني أن أتغزل بإحداهن شعراً سار بين الرفاق. ولعلّ بعضهم قد ادعاه لنفسه.

وما كنت لأصارع من أجل حقوق ملكيتي له، فينكشف أمره في مجتمع محافظ يتغنى بشعر الغزل ما دام في امرأة مجهولة. فإذا كان في فتاة معلومة من أهل البلد وقد سمّتها القصيدة، فلا يدري صاحبها على أي جنب يميل، وأيّ ثائر يتقي، ومن أين يأتيه العذاب والعقاب: من أبيه الذي سيكون تقريعه أشّد مضاضة من وقع الحسام؟ أين ما بذل فيه من التأديب والتربية على مخافة الله ومكارم الأخلاق والمروءات، فإن لم تردعه هذه فليذكر أن له أخوات كتلك التي تعرّض لها بغزله. فهل يسرّه أن يتعرض لهن أحد بمثل ما فعل؟ أبمثل هذا الشعر نحرّر الأوطان ؟ لقد احتمل الابن إثما وبهتاناً عظيماً لا تكفرهما إلا التوبة الصادقة وكثرة الاستغفار، والاجتهاد في النوافل .
ولا حول ولا قوة إلا بالله .

أم يأتيه العقاب والعذاب من مدير المدرسة الذي لا يتزحزح عن مذهبه في ضرورة أن يقسو الحازم على من يرحم ليردعه عن غيه، وبذلك ينقذه من نفسه!
أم من قوم الفتاة الذين انتفخت صدورهم وحميت أنوفهم وصاح صائحهم، يا لثارات بني عبس!
فليدّع القصيدة من يشاء، فلن تبلّغه أكثر مما تبلّغني. وما هي إلا نفثة محرور يعينه الجمال العصي على اكتشاف الشعر فيه. ولسوف يتلو ذلك قصائد أخرى تتحدّى سلطة رقيب أشدّ خطورة وأنكى عذابا، وتصنع لنفسها فضاءً لا تقطعه حدود الغزاة ولا تطوقه شرطة الطغاة، وتعبر فيه رفوف الطيور الفيروزيّة التي يعز علينا غدا أن تعود، ونحن هنا.

ولكنني هنا الآن في طولكرم، في مرابع الصبا الغابر لا يشدني إلا شوق العائد بعد طول غربة في أرض التّيه. أخلّف مدرسة خضوري ورائي مصعّداً. هذه سينما (الفريد) على زاوية الشارع المنحدر عن يميني. وغير بعيد أمامي، وعن يساري سينما ( الأندلس ) التي كان اسمها في أول أمرها سينما ( يافا ). إلى هنا كنا نفرّ من ملالة مدينة تنام مع غروب الشمس، قبل أن نُعيد اكتشافها في عالم الذاكرة، ويحوّلها الحنين إلى فردوس مفقود. هنا كنا نأتي لننسى، ولو لساعتين أو دون ذلك، واقعاً ثقيلا يحاصره الغزاة والطغاة وتندحر فيه الرغبات المحبطة. هنا نافذة نُطلّ منها على عالم ليس لنا حيث الصور الجميلة التي تنتجها مصانع الأحلام في هوليود والقاهرة .

وكما كنا نستقبل العالم الواقعي بذائقة ساذجة متواضعة في معاييرها ومتطلباتها وتوقعاتها، قبل أن تفقد الأشياء قدرتها على الإدهاش مع تقدم الوعي وتزاحم الخبرات وتراكم المعارف وبطر الحواس، كنا كذلك نستقبل الأفلام. فمن النادر أن يخيّب فيلم آمالنا في الإقناع والتأثير. في زمان آخر سوف يصبح من النادر أن يدهشنا فيلم بجودة نصه وتنفيذه على الرغم من التقدم الهائل في صناعة السينما. ولسوف نعجب ونحن نشاهد فيلمآ قديماً، كيف استطاع هذا الفيلم أن يضحكنا ويبكينا إذ شاهدناه أول مرّة : حبكة ضعيفة، وقصة ساذجة مكرورة، ومعالجة " ميلودرامية " تخاطب العواطف السطحيّة، وشخصيات مسطّحة أحادية، وعجز عن استبطان الواقع وعلاقاته وشروطه، وحوار ركيك، وإخراج بدائي، إلا بالطبع من استثناءات قليلة بقيت تحتفظ بتميزها على الرغم من تقادمها. وعلى أي حال، فلا ندامة ولا رثاء لوقت ضائع.

بل ينبغي أن نشكر لسذاجة وعينا وتواضع أحكامنا في ذلك الحين. فلولا ذاك لخسرنا تلك الأحلام الجميلة التي كانت ترتسم على الشاشة السحريّة، ولكانت الحياة إذ ذاك أكثر ملالة وكتامة. ولكن، ما بالنا الآن, إذا عرض واحد من تلك الأفلام القديمة على إحدى القنوات التلفازية، نُعيد مشاهدته بكل اهتمام وشغف، على الرغم من أحكامنا النقدية القاسيّة، ولا نتسامح مع الجديد تسامحنا مع القديم؟ الآن يجذبنا إليه سبب آخر، غير أسبابنا القديمة. الآن يردنا إلى ذلك الماضي الجميل المضيء, ويبعث فينا الصبي الذي كنّاه. كان في الماضي نافذة نطل منهاعلى عالم ليس لنا، والآن هو نافذة نطل منها على عالم كان لنا وفقدناه إلى الأبد .

وللسينما عادات في خداع الوعي والحواس. فما يرتسم على الشاشة أجمل دائماً من الواقع. فالممثلون يصبحون نجوماً لامعة. والنجوم دائماً جميلة براقه غلاّبه .

وإذ نعيد مشاهدة أحد تلك الأفلام العربية القديمة، نعجب كيف كانت هذه الممثلة أو تلك تخلب ألبابنا وتغذي أحلامنا وتهيج أشواقنا. والآن وقد تحررنا من سلطان النجومية وفتنتها مثلما تحررنا من عشى الرغبات البدائية, الآن نرى تلك الممثلة بعين أخرى أكثر حدّة وأقل تسامحاً وكرماً: قوام ممتلئ وردفان عريضان، وعنق ثخينة .

وذلك المطرب الممثل الذي فتن قلوب العذارى وأرّق جفونهنّ، حتى بللن مناديلهن بدموع العشق المستحيل، ومشى بهن على طريق الشوق والشوك، وأيقظهن صوته من جوف الليل، وصرفهن عن يقظة النهار .. ذلك المطرب الذي عشقنا أغانيه بقدر ما شعرنا بالغيرة منه، فهو على البعد يبلغ من قلوب الحسان ما لا نبلغ نحن على القرب .. نطلب الواحدة ولا نجدها ، وهو يكتسح قلوبهن على الجملة من مكانه القصي في سماء مرصّعة بالنجوم .. ذلك المطرب، لم يكن له من الوسامة بعض ما له من الموهبة والصوت الرّخيم الشجيّ .. ولكن للشهرة والموهبة سلطان وضوء باهر يعشي الأبصار، ويؤجل الكهولة، ويطيل القامة، ويجمّل القبيح. والجمال كما قيل في عين الرائي لا في حقيقة المرئيّ .. ومهمّة السينما كمهمّة السحر: أن تسحر أعين الناس حتى ليخيّل إليهم من سحرها أن مشاهيرها ( أبطالها ) قد صنعوا من غبار النجوم، حين خلق سائر الخلق من صلصال من حمإ مسنون .
قل في صوت أم كلثوم ما شئت، ولا تدّخر شيئا من ديوان المدائح، إلا ما كان من جمال الصورة. فما بال كل هؤلاء المبدعين الذين اتصلت سيرتهم بسيرتها قد بذلوا في عشقها أعمارهم ومواهبهم, وبعض كبريائهم، وهي متحصّنة عنهم في علياء مجدها. فقنعوا منها بأن تبقيهم في ظلها العالي، يحاولون حباً يائساً أو يموتون فيعذرون. فهذا الشاعر الموهوب ينفق طاقته الابداعية في كتابة الأغاني لها. وكان بوسعه أن ينافس على لواء الشعر الفصيح. وهذا الموسيقار العظيم يرضى من قربها بأن يرافق حفلاتها الغنائية " عوّادا " في فرقتها الموسيقية, إذ تعزف ألحاناً من صنع غيره, فيضرب على عود تضيع أنغامه في زحمة الآلات الأخرى .

لم تأت هذه الفتنة الطاغية المتسلطة من جمال الوجه والصورة يقيناً. وإنما شعّ بها سلطان الشهرة والمجد والموهبة الفذّة، ذلك السلطان الذي في وسعه أن يعوّض عما ضنت به الطبيعة من أنوثة أو فحولة, أو هي جاذبية تحاكي قانون الجاذبية الطبيعي، إذ يجذب الجرم الكوني الكبير ما دونه من الأجرام إذا دخلت في نطاق جاذبيته, أو كأنها نزوع الإنسان إلى تأكيد قيمته وتفردّه إذا اصطفاه من دون خلق الله حبيب عصيّ بعيد المنال شغل الدنيا وملأ الأسماع وتزاحم على بابه المعجبون والعشّاق، وتنافس في حبه المتنافسون!

ولكن مهلاً ! قل اللهم لا حسد. فلا يكافئ مغانم شهرة الفنانين إلا مغارمها .

فمن الناس في مجتمعنا من تحصن من سحرهم، فهو يميز بين الأغنية والمغني، والتشخيص والمشخِّص. لنا أن نستمتع بما يقدمه هؤلاء ولكن المطرب في نهاية الأمر " مغنواتي " والممثل " مشخّصاتي ". وهو ما لا ترضاه العائلة المحافظة لأبنائها مهما تكن امتيازات المال والشهرة . ولطالما كانت الشهرة – على كل حال – طرائق جددا. فمنها صيت حسن ، ومنها صيت سيء. ألا ترى إلى من أشيع عنه صيت سيء، يقال فيه : قد شُهّر به ؟ فالتشهير والشهرة من جذر واحد! ولطالما لحقت بمجتمع الفنانين وصمة الانحلال والسهرات الحمراء. وبذلك يعيش الفنان مفارقة حادّة بين التعظيم والتبخيس. فتارة يمشي مختالاً بين معجبيه، يوشك أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً، وتارة أخرى يجد من القوم من يسلقه بألسنة حداد ويصدّ عنه صدوداً. فإن لم يكن هذا كافياً، فثمة آخرون لا ينكرون مهنته حتى ينكروا معها فنه على الجملة. فهو عندهم هزل لا يليق بذوي الأحلام، أو هو إثم من عمل الشيطان ينبغي اجتنابه، إذ يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويصرف عن مكارم الأخلاق .

في طولكرم ، كنت لا ترى في دار السينما إلا الشباب والفتيان في معظم الأحيان. إن لم يكن ذلك ترفعاً من الكبار عن ترفيه ملتبس بالهزل، فترفعا عن الجلوس بين فتية صاخبين غير راشدين, كلما جاء مشهد تقبيل، تلقوه بالصفير والتعليقات المبتذلة. وإذا نشب عراك على الشاشة بين البطل الطّيب الخير وخصومه الأبالسة شبوا عن مقاعدهم يصفّقون للبطل ويحرضون ويذمرون على القتال .

وأحسن الأفلام عند كثير منهم ما جمع بين كثرة التقبيل والمشاهد الساخنة وكثرة العراك . فإذا عرض فيلم من هذا النوع تواصوا به وأقبلوا عليه يتذامرون .
في مقام كهذا لا نتوقع أيضا أن تقبل الفتيات إقبال الفتيان، إلا إذا كان الفيلم من النوع العاطفي الرومانسي، لا سيما أفلام عبد الحليم حافظ. وهنا يتزاحم الفتيان على دار السينما تزاحم النحل في قفيره، لا يغريهم من الفلم ما يغري الفتيات، وإنما يغريهم إقبال الفتيات أنفسهن. فهي من المناسبات النادرة التي يجتمع فيها هذا الحشد من الفتيان والفتيات في حيّز واحد .

فترى الفتيان وقت العرض يقلّبون أبصارهم بين الشاشة وبين الفتيات اللواتي يجلسن في نصف الصالة المخصص لهن. فلا يجاور الفتى فتاة مباشرة في مقعده. وبين القسمين طريق المرور .

يودّ أحدهم لو كان له من الحظّ في الحب ما لبطل الفيلم، حتى لو جاء ذلك في صفقة واحدة مع مرض عضالٍ لا يرجى شفاؤه في بلد العاشق، إلا أن يسافر إلى أوروبا لتجربة علاج هناك، حظوظ نجاحه ضئيلة. ولكن من عادة الأفلام أن تتغلب فيها النهايات الجميلة على أسوأ التوقعات وأعتى التحديات، ليفوز العاشق بالحسنيين، الحبيبة والعافية، بعد أن ظنّ الجميع كل الظن ألا أمل ولا تلاقي، وأن جرح العاشق لا يهدأ ولا ينام، لا في يوم ولا في شهر ولا في سنة، وأن " حكاية حبّه " محكومة بفجيعة محتومة!

على أن الفتيات في نصف الصالة المخصص لهن منصرفات كل الانصراف عن لواعج الشباب في النصف الآخر. بل لعل العواطف المشبوبة التي تتمثل على الشاشة تزيدهن زهداً بهم. شتان عندهن بين صناعة الواقع وصناعة الأحلام .

وأين شاب من هؤلاء الذين يقبعون في عتمة المكان من نجم الفيلم الذي ينضح رقةً و نبلاً وصدقاً وموهبةً ومثاليةً. إن لم تكن قصة الفيلم وشخصياته تجسيداً للواقع، فإنها حجة عليه، تزدري به وتكشف قصوره. لا عزاء للفتيان في صالة السينما. وسوف يرجع بطل الفيلم من رحلته في العلاج إلى أوروبا معافى، وسوف يلتئم شمله مع حبيبته الجميلة. وعندها تنقلب دموع الفتيات في دار السينما إلى دموع فرح. انتهت رحلة العذاب، وانتصر الحب ولكن في عالم آخر.

فإذا انقضى الفيلم لم تخرج الفتيات حتى يتم خروج الفتيان أو إخراجهم. ولكن هؤلاء يتلكؤون عند باب السينما يرجون إرسال نظرة أخرى لا يستقبلون مثلها.

وكنت ترى الفتيان إذا خرجوا من باب السينما قد تقمّص بعضهم حال بطل الفيلم على حسب قصته ونوعه, فإذا كان من أفلام الغرب الأمريكي ورعاة البقر رأيت أحدهم يمشي وقد ابتعد بذراعه عن خاصرته وأخذ يقبض يده ثم يبسطها كأنه يستعد لسحب مسدسه الوهمي بسرعة البرق في مشهد المواجهة الأخيرة . فإن كان في صحبة انخرطوا معه في مبارزات يتبادلون فيها إطلاق النار وهم يسدّدون بأيديهم المشهرة، وقد ينفخ بعضهم على رأس سبابته ليبردها من حميم الرصاص الغزير ودخانه ويتابع. وإن الرصاص لا ينقضي من ذلك المسدس العجيب دون حاجة إلى إعادة حشوه. وإذا كان مثل هذا المشهد في الفيلم قد استغرق بضع دقائق أو دون ذلك، وانتهى كالعادة وبالضرورة بمصرع الأشرار جميعاً على كثرتهم وسلامة البطل ذي المهارة المعجزة، فإن مشهد المحاكاة لا يكاد ينقضي. فالنص هنا مفتوح ومرتجل. ولا يودّ أحدهم أن يموت أو ينهزم. فلا يسقط أحدهم نفسه على الأرض من رصاصة صاحبه الذي ظن أنه قد أرداه قتيلاً، حتى يفاجئه الأول بالنهوض ليسدد له رصاصة ينبغي أن تكون قاتلة. ولكن هيهات .

لا أحد يموت. وغاية ما يرضى به جرح في أعلى ساعده أو فخده لا يعطّل قدرته على متابعة إطلاق النار. وهكذا حتى يملّ القوم ويصل بعضهم إلى باب داره، لتذكره كوفية أبيه و " قمبازه " ولهجته الريفية بأنه عربي فلسطيني من ( طولتشرم ) طولكرم بينه وبين الغرب الأمريكي بعد المشرقين وبعد المغربين :
وين بكيت ( بقيت ) حظرتك ( حضرتك ) داير لهسّع ( لهالساعة ) ؟
مع أصحابي!
وين مع أصحابك ؟
بندرس مع بعظ ( بعض ) .
هه ! تنشوف يا فالح !

أحسب أن والدي – رحمه الله – كان أكثر تصديقاً لروايتي عن قضاء الوقت في الدراسة مع بعض أصحابي. ربّما لأنني كنت " الأول " في صفّي على توالي الأعوام، على الرغم من المنافسة الشرسة في مجتمع طولكرم الذي كان يضع التعليم والتفوق الدراسي في الدرجات العليا من سلّم القيم الاجتماعية ، باعتبارهما الشرط الأهم للحراك الاجتماعيّ والاستثمار الأعظم الذي ينقل الأسرة الممتدة بمجملها من حال معيشي إلى حال أفضل، ومن طبقة إلى أخرى. فلم يكن على والدي أن يشكّ في روايتي وهو يرى نتائجي السنوية، ويستمع إلى مدائح المعلمين لي, وهي التي لم أكن أكيل لهم مثلها. فالتفوق العلميّ في مجتمع طولكرم يكافئ التفوق الأخلاقي. وذنب المتفوق مغفور ولو عَظُم. أما المتأخّر فلا يكاد يشفع له شيء من حسن الخلق والخلقة، فهو مذنب بلا ذنب. وعليه أن يعيش مع وصمة التخلّف الدراسي، في كل حين تلاحقه بوابل من الأوصاف القبيحة :
( تيس ، حمار ، بغل ، بهيم ، غبي ) ، وتنذره بمستقبل معتم .

سوف تنتهي " عتّالا " ، أو موزع جرائد ، أو " سمكريًّا " ، أو " زبَّالاً " … ما ظنك غدا إذا صرت عالة على بعض إخوانك وقد يصدّون عنك صدوداً، إن لم يكن من أنفسهم فبتأثير أزواجهم!

لا عجب إذن أن يكون والدي فخوراً، وأن يصرفه ذلك عن أن يظنّ بي سوءاً إذا ادّعيت أني كنت في شأن الدراسة مع أصحابي، وقد كنت في دار السينما على الحقيقة. وهي في معاييره الأخلاقية أقرب شيء للحانات الليلية التي نتسامع بها في ديار الكفر والمدن الصاخبة البعيدة ولا نراها. بل لعلّ صرامة معاييره الدينية والأخلاقية هي التي كانت تدعوه إلى تصديق حجتي، وتصرفه عن اختبار صحتها. فهل يعقل أن ينحدر ولده المتفوق في دراسته والذي نشأ في بيت دين أن ينحدر إلى ذلك الدرك الأسفل فيذهب إلى دار السينما ليشهد تلك الرذائل متصورة أمامه؟ كان على بيتنا أن يتخلف عن بيوت الناس أعواماً قبل أن يخضع والدي أخيراً لضغوط العائلة فيدخل جهاز المذياع إلى بيتنا على مضض، واحتاج إلى وقت أطول لكي يغضي عن استعمالنا له لسماع الأغاني دون أن يدندن بأصوات التبرّم وذمّ الزمان الآيل إلى فساد. ولعله حين جاء بالجهاز بعد طول رد، لم يفعل ذلك استجابة للضغوط وخلاصاً من الجدال المزعج في المقام الأوّل، وإنما لأن حاجته إلى الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم ونشرات الأخبار قد غلبت أخيراً على مفاسد المذياع الأخرى. فلا عجب إذن أن يرى إلى السينما بوصفها أم المفاسد والرذائل .

وكان قد فرض على أبنائه أن يثوبوا إلى البيت قبيل دخول المساء، وذلك قبل أن نبلغ الصفوف الثانوية. والمدينة على كل حال تنام مع غروب الشمس كما وصفتها مجلة العربيّ في تحقيقها المنشور عن طولكرم عام 1963م ، وغاية ما يبلغه الساهرون انقضاء صلاة العشاء. ولما كان وقت عرض الأفلام يبدأ في وقت ما بعد العصر، فإن عرض الفيلم لا ينتهي حتى غياب الشمس على حسب طوله وعلى حسب طول أيام الفصول. فكنت أقضي الدقائق الأخيرة من الفيلم متوتراً أقلب نظري بين الشاشة وساعتي. وأنا بين الرغبة العارمة في مشاهدة الذروة الدرامية التي تأتي مع النهاية وبين الخشية من تأنيب والدي. وما كان يفعل غير التأنيب, ولكن كان له من الهيبة والسلطة المعنوية ما يجعل تأنيبه ثقيلاً يرجى اجتنابه .

ولقد ترجح الرغبة في مشاهدة نهاية الفيلم على خشية التأنيب إذا كانت درجة التشويق والإثارة عالية. فإن لم تكن رجحت كفة الميزان الأخرى، فخرجت من دار السينما قبل مشاهدة الخاتمة. وبذلك فاتني من أفلام كثيرة نهايتها. وكان على خيالي أن يشخّص الخواتيم. وربّما اضطررت في نهار اليوم التالي أن أسأل بعض رفاقي ممن شاهدوا الفيلم أن يقص علي النهاية .

وكان بعضهم أوفق من بعض في القص والتشخيص. وكان علي أن أنتظر عشرات السنين بعد ذلك ﻷستدرك ما ضيعته من تلك النهايات واللذات. وذلك حين دخلنا زمن الفضائيات التي تزاحمت فيها قنوات اﻷفلام القديمة، وجلها باﻷسود واﻷبيض. فوجدتني أقبل على مشاهدتها دون اﻷفلام العربية الجديدة بدافعين : أولهما ذلك الحنين الآسر إلى الماضي، وثانيهما استكمال مهمة بدأت ولم تنته في زمان غابر قديم. وما كانت تلك النهايات الفائتة بالتي تفاجئ أحداً أو تصدم توقعاته. فهي أشبه شيء " بالكليشيهات " الجاهزة . وما أن يمضي من الفيلم بعضه حتى يكون بوسع أقلنا خيالا أن يتنبأ بمجرى اﻷحداث بعد ذلك حتى القرارة اﻷخيرة. ولكن، لفنون السرد سحرها وجاذبيتها مهما تكن ساذجة ومكرورة .

أفلم تكن الجدة تقص علينا الحكاية الشعبية البسيطة عشرات المرات ونحن نضع رؤوسنا على ركبتها، ثم ننشدها أن تعيدها علينا مرات أخرى في أيام أخرى؟! فلا يزول السحر حتى تغادرنا الطفولة، وتمنحنا الحكمة المتراكمة والمعارف المكتسبة ما يرفع غلالة السحر عن العالم، أو يجعل مطلبه أكثر صعوبة و تعقيدًا .

حين لم يكن في وسعنا أن نذهب إلى دار السينما لنشاهد واحدا من تلك اﻷفلام، كنا نصنعه ! فكنت أخرج مع بعض رفاقي إلى سهل طولكرم، وهناك ننخرط في تمثيل قصة مرتجلة نحشد فيها من المعارك ما نتمنى أن يحشده أي فيلم حقيقي نشاهده. ولكن إدارة عملية الإخراج وتوزيع اﻷدوار وتوجيه الممثلين المشاركين وإلزامهم خطوط السرد ( وكانت كلها من عملي فضلاً عن دوري في البطولة المطلقة ! )، لم تكن بالعملية الهينة. فما إن ندخل في عملية اﻷداء والتشخيص وفقاً لتوجيهاتي الابتدائية، حتى يصبح الموقف اختبارا للقيادة و صراع الإرادات وعلاقات القوة والتدافع الاجتماعي السلوكي المضمر والمعلن على الواقع والمعاني والتأويلات والامتيازات المعنوية .

لا أحد يريد أن يموت مغلوبا ويخرج من اللعبة؛ لا أحد يريد أن يكون شريرا في عالم مثالي متخيل ينهزم فيه اﻷشرار؛ لا أحد يريد أن ينتهي دوره في منتصف الفيلم. الكل يحاول الخروج عن خطوط النص التي ارتجلها شخص واحد ( هو أنا )، الكل يحاول أن يكون شخصية رئيسة وبطلا مكافئاً .. لا أحد يرضى بدور ثانوي, فكيف أن يكون " كومبارسا "! وما هي حتى يتوتر الجو ويتحول الصراع المتخيل إلى صراع حقيقي على عناصر الصراع المتخيل وخطوطه !! وفي سياق هذا التفاعل العجيب تنكشف أنماط الشخصيات الحقيقية للمشاركين. فهذا سريع إلى الغضب الجارف والانفعال الشديد، وذاك أكثر تعقلا وحكمة وواقعيّة، وهذا يفضل هدم السقف على رؤوس الجميع وتخريب اللعبة الماتعة برمتها على أن يخضع لتوجيهات القيادة ويرضى بأقل مما فرض لنفسه. وهذا ضعيف يؤثر السلامة والاتباع على المواجهة أو تحمل التبعات. وهذا لا تتفق طموحاته الكبيرة مع مواهبه الحقيقية المتواضعة. وذاك أكثر دهاء من غيره، فيظهر القبول والتفهم ويتجنب الجدال، ثم يجد طريقة ذكية لفرض نفسه. وهكذا يتقلب الموقف بين التشخيص المتخيل والتفاوض عليه، ويصير الخيالي موضوع التفاعل الواقعي واختباره .

ومع التقلب بين هذا وذاك ، تقلب آخر بين اللهجة المصرية، وهي لهجة اﻷداء والتشخيص المتخيل، واللهجة الكرمية الفلسطينية، وهي لهجة الصراع الواقعي على فضاء الخيال والوهم .

بعد زهاء عقد ونيف، سوف يتحول شغفي بسحر الدراما وفنون السرد إلى حرفة كتابية تتنافس مع عملي أستاذاً جامعيا. وسوف يكون بوسعي أن أكتب نصوصي الدرامية التلفازية لينفذها جملة من أصحاب المواهب المحترفين إنتاجاً وإخراجا وتمثيلا، في صناعة متكاملة تقوم على التقاسم و التكامل. ولن يكون علي أن أنهض بكل المهمات و أن أدخل في تدافع متعب مع سائر المشاركين!

هل قلت : " لا تدافع " ؟ ليس هذا صحيحا. فالتدافع سنة في الفعل الاجتماعي وإن اتخذ أشكالا مختلفة. والصناعة الدرامية وإن قامت على التقاسم الوظيفي والتكامل فإنها تنطوي على قدر كبير من التدافع، بل الصراع أحيانا، بين أطرافها، وتشتغل فيها علاقات القوة مستعلنة أحيانا ومستخفية أخرى.
إنها القصة القديمة عن التوتر الطبيعي بين الفرد والجماعة. لا يستغني أحدهما عن الآخر، ويستثقل ثمن الحاجة إليه من كيانه ومصلحته وحريته ورؤيته ومواقفه وتعريفاته للأشياء. فيكون التدافع .

ولعله شرط إنساني وضرورة اجتماعية يفضي معها التدافع إلى الدفع والحراك ولو بعد حين. أما انفراد أحد الطرفين: الفرد أو الجماعة، بالسلطان، فلابد أن يفضي إلى نوع من الطغيان: طغيان الفرد، أو طغيان الجماعة التي تلغي حرية الفرد وإبداعه. فإذا وصل التدافع حد الصراع والإقصاء المتبادل، انقلب إلى ضد مآلاته، وأفضى إلى تفكك المنظومة الاجتماعية وانهيار النشاط الجمعي. وباء الجميع بالخسران حتى ينتظم أمرهم من جديد على قواعد جامعة.
إذا صحّ أن صناعة الدراما السينمائية والتلفزيونية هي – في جانب منها على اﻷقل – صناعة اﻷحلام، سواء أكانت تلك اﻷحلام هروبا من الواقع أم تقدمة لخلق واقع جديد أكثر نبلا وجمالا ، فإن عملية الصناعة نفسها أنموذج للواقع بكل ما يضمره من علاقات وشروط وأنماط إنسانية، قد يكون بعضها شديد القبح .
لم نكن ندرك هذا كله حين كنا نرتاد سينما الفريد وسينما اﻷندلس في طولكرم في تلك اﻷيام الزاهية من خمسينات القرن الماضي وستيناته، وكنا نستقبل من أعمارنا أكثر مما نستدبر.
كفى وقوفاً على دار سينما الفريد ودار سينما اﻷندلس. وﻷتابع السير في مرابع الصبا، قدما نحو قلب المدينة .

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد