"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…"
سورة آل عمران: الآية 159.
على إثر كلّ اعتداء إرهابي ينفذّه منتمون إلى أحد التنظيمات الإسلاموية – وعلى رأسها داعش – يخرج علينا من بين جمهور المسلمين – خصوصاً نحن العرب منهم – قلّة قليلة من المتبجّحين، المتشدّقين، المتعالين، المتعجرفين، الذين يتحفوننا على شبكات التواصل الاجتماعي بشماتتهم الفظّة من ضحايا الاعتداء، والذين يفاجئوننا بتبريرهم على وسائل الإعلام – ولو بكثير من الخبث المبطّن، والنفاق، والمواربة اللفظية، والتقية الأخلاقية – لهذا الإرهاب.
فبعد الاعتداء الإرهابي الذي جرى في ملهى "رينا" الليلي في اسطنبول في ليلة رأس السنة، ظهر علينا من بدأ يتشفّى من ضحايا هذا العمل – حتّى لو كان الكثير من هؤلاء الضحايا من العرب و/أو من المسلمين- لا لشيء، بل فقط لأنّهم كانوا يرتادون ملهى ليلياً؛ ومن لم يتردّد في محاولة إيجاد التبريرات لهذا العمل؛ لأنّه استهدف مكاناً مخصّصاً للسهر والرقص والاختلاط واحتساء الخمر.
هؤلاء الشامتون الذين يمكن أن ينطبق عليهم وصف الرويبضة، أي – كما جاء في الحديث الشريف – "الرجل التافه يتكلّم في أمر العامّة"، يقابلهم عادة فئة المتزلّفين، وهم حلفاؤهم الموضوعيّون.
أمّا المتزلّفون، فهم عادة من المثقّفين العرب والمسلمين الذين يحترفون جلد الذات، والتباكي الخبيث، والنفاق السخيف، خصوصاً أمام غير المسلمين. فهم يبرعون في تبرير الأفكار النمطية عن المسلمين، وفي توفير المسوّغات الأكاديمية الخاطئة للإسلاموفوبيا، وهم يبدعون في تعميم تهمة الإرهاب على جميع المسلمين على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم وألوانهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهم ينسبون أسباب الإرهاب إلى ثقافة المسلمين وحضارتهم وتفكيرهم ونصوصهم الدينية. ويسعى أولئك المتزلّفون، بتقريعهم الفولكلوري لمليار ونصف المليار من المسلمين، إلى استجداء تميّز نخبوي بأي ثمن، لا سيّما في عيون الغرب، حتّى ولو كان هذا التميّز واهماً وضعيفاً.
أمّا السواد الأعظم من المسلمين، فهم عالقون بين مطرقة مبرّري الإرهاب وسندان المتزلّفين للغرب؛ يعضّون على جرح الاتّهامات التعسّفيّة، محاولين التحلّي بالصبر أمام فظاظة البعض، ملتزمين بالصمت أحياناً كثيرة – خجلاً وعلى مضض – أمام الترهّات التي تتقاذفها الفئتان المذكورتان آنفاً، اللتان تحتكران عادة الظهور وتحتلّان كلّ المساحة الإعلاميّة.
قد حاولنا سابقاً، وفي أكثر من مناسبة، الردّ على فئة المتزلّفين وتفنيد أباطيلهم؛ إن كان ذلك في تدوينات باللغة العربية قد شرّفني هذا الموقع الكريم بالذات بنشرها مراراً، أو بمقالات باللغة الفرنسية نشرتها صحيفة "الأوريان- لوجور" اللبنانية العريقة.
ولكن من الضروري أيضاً الردّ – ولو بإيجاز – على فئة الشامتين بضحايا الإرهاب، فلا شيء يمكنه أن يبرّر الإرهاب، والشماتة بضحاياه لا تصحّ ولا بشكل من الأشكال، وذلك لأسباب عديدة:
1.- فقبل كلّ شيء، ليس في تركيا – ولا في كثير من البلدان التي تتعرّض لاعتداءات إرهابية من منظمات إسلاموية – نظام إسلامي يطبّق الشريعة الاسلاميّة وأحكامها. فالدستور التركي ينصّ على نظام مدني، علماني، ديمقراطي، حتّى ولو كان حزب إسلامي – أي حزب العدالة والتنمية – هو الذي يتولّى زمام الحكم منذ أكثر من 13 سنة؛ لذلك لا يمكن قانونياً منع الملاهي الليلية في بلد كتركيا أو معاقبة مرتاديها.
2.- على جميع الأحوال، حتّى لو تصوّرنا جدلاً أنّ هذا الملهى الليلي أو ما شاكله كان قائماً في ظلّ نظام إسلامي يطبّق أحكام الشريعة، فحتّى في هذه الحالة لا يعاقَب من أسّسه أو من ارتاده بحدّ القتل، بل بعقوبة أخفّ بكثير من ذلك.
3.- لا بل أكثر من ذلك، لو اعتبرنا جدلاً – وهو ضرب من ضروب الخيال يمكن أن يستهوي أتباع نظرية صراع الحضارات- أنّ المسلمين بمجموعهم هم حالياً في حالة حرب مع غير المسلمين، لا سيّما مع الغرب وحضارته، فحتّى في هذه الحالة لا يمكن نهائياً تبرير قتل المدنيّين والتنكيل بالأبرياء. فأين نذهب بكلّ معاهدات الحقّ الإنساني التي ترعى حالياً النزاعات المسلّحة، وخصوصاً ماذا فعلنا – كمسلمين- بكلّ التراث الأخلاقي الحربي الإسلامي؟
فهل نسينا مثلاً أخلاق صلاح الدين التي ما زال يتغنّى بها المؤرّخون في الغرب قبل نظرائهم في الشرق؟ هل نسينا تفوّقه الأخلاقي على الصليبيين، وكيف حمى سكّان القدس المسيحيّين وكنائسهم بعد تحريرها من الجيوش الصليبية سنة 1187، وكيف سمح بعودة المسلمين واليهود إليها، وأعاد فتح مساجدهم ومعابدهم؛ وذلك بعد أن كان قد أقفلها الصليبيون، وحوّلوا المسجد الأقصى إلى إسطبل لخيولهم، وطردوا غير المسيحيين، وارتكبوا المجازر المروّعة إبّان سقوط المدينة بأيديهم سنة 1099 ؟*
4.- أمّا الأهمّ من كلّ هذه السوابق التاريخية، فهو أنّه لا يمكنني ولا يمكنك – كمسلم – أن تمضي وقتك – ولو عن حقّ – في إدانة إرهاب الدولة المنظم الذي يتعرّض له حالياً الشعب السوري أو العراقي أو الفلسطيني أو اليمني أو الشيشاني أو قومية الروهينغا في بورما أو حتى الويغور في الصين… وأن تستنكر يومياً أشكال التمييز العنصري، لا سيما الإسلاموفوبيا التي يتعرّض لها المسلمون في كثير من دول الغرب والتضييق الذي يتعرّضون له في ممارسة معتقداتهم وشعائرهم الدينية.. وأن تتحسّر صباح مساء أمام تكالب الأمم على المسلمين – تحديداً على أهل السنة والجماعة – من كل حدب وصوب.
وأن تقوم – بعد كلّ هذه الديباجة المطوّلة التي تشنّف بها آذان المعمورة على مدار السنة – بالشماتة بمقتل أبرياء في عمل إرهابي.. فقط لأنّهم قضوا في ملهى ليلي، لا بل بالدفاع أيضاً – ولو بخبث مبطّن – عن هكذا عمل.. فقط لأنّه استهدف مكاناً يمكن أن يتعارض مع معتقداتك أنت، ولكن لا يتعارض مع معتقدات غيرك (ومنهم المسلمون).
فكيف لنا – كمسلمين- أن نطالب بعد ذلك بحقوقنا، لا سيّما في المجتمعات الغربية، في حين أنّنا – في نفس الوقت – ننكر على الآخرين أبسط حقوقهم، لا سيما الحق بالحياة؟
فازدواجية المعايير هذه التي يقع فيها الشامتون بضحايا الإرهاب الإسلاموي لا تصحّ من حيث المبدأ القانوني أوّلاً، كما أنّها تشكّل إحدى الذرائع السياسية الأساسية التي يستعملها الكثير من الأحزاب والقوى في الغرب للتضييق على المسلمين وحرمانهم من بعض حقوقهم؛ لا سيّما أنّ الرأي العامّ في البلدان الغربية أخذ يشترط على البلدان العربية والإسلامية مبدأ المعاملة بالمثل في مجال حقوق الإنسان، حتّى ولو كان هذا الاشتراط تعسّفيّاً؛ لأنّ أغلب المسلمين في البلدان الغربية – كما أغلب غير المسلمين في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية – هم بالدرجة الأولى مواطنون لهذه الدول، وليسوا رعايا أجانب.
5.- بالإضافة إلى ما سلف، فإنّ شماتة الشامتين بضحايا هذا الإرهاب تشكّل أكبر خدمة مجّانيّة يمكن أن تقدّم على طبق من فضّة للمروّجين للإسلاموفوبيا؛ فهي كالماء الذي يستعمله جمهور العنصريّين ممّن يبغضون الإسلام والمسلمين لتشغيل طواحين حقدهم وكراهيتهم بسرعتها القصوى.
"شاهدوا ماذا يقول المسلمون! إنّهم يشمتون بضحايا الإرهاب! إنّهم يفرحون بالموت! هذا كلّه بسبب معتقداتهم! دينهم دين عنف ودم وقتل!" هذا بالتحديد ما سوف يردّده العنصريّون للتحريض ضدّ المسلمين، أي أنّهم سوف يعمّمون بشكل تعسّفي أقوال هؤلاء الشامتين على كلّ المسلمين، ويسقطون خطاب الكراهية – الذي تتبنّاه فئة هامشية من المسلمين – على كلّ أتباع هذا الدين. وبالطبع، لن تكل بالمقابل فئة المتزلّفين -الآنفة الذكر- من المحسوبين على المسلمين جهداً في معاونةّ العنصريين في تخرّصاتهم الجدلية.
فبسبب قلّة قليلة من مبرّري الإرهاب و/أو الشامتين بضحاياه، أي تحديداً بسبب قصر نظرهم، وقلّة درايتهم، لا بل بسبب غبائهم اللامتناهي، تدفع الأكثرية الساحقة من المسلمين – لا سيّما في البلاد الغربية – الأثمان الباهظة، وذلك بالإضافة إلى ما كانت تعانيه من شيطنة وتمييز في المعاملة، فبذلك يكون الغلاة من المسلمين – أي أولئك الذين يشمتون بضحايا الإرهاب ويبرّرونه – أضحوا كمن أطلق النار على رجله من حيث لا يدري ولا يحتسب.
فالقليل من التبصّر! القليل من الحكمة! القليل من الإنسانية! فالدين الإسلامي دين رحمة وحسن معاملة وخلق رفيع، ولا يحقّ لقلّة من الغلاة أن تقوم- غالبً بسبب غبائها – بوصم مجموع المسلمين بهذا الدرك الأسفل من خطاب الكراهية.
* يمكن مراجعة كتاب المرجع الفرنسي:
CAHEN (Claude), Orient et occident au temps des croisades, Aubier, Collection historique, 1983
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.