ما زالت القارة الأميركية، على الرغم من كل التطورات السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي عرفها العالم طيلة القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، تمثل قبلة المتطلعين للمدافعين عن حقوقهم العادلة، إما للإسناد والتعبئة، أو للإنصاف والمساءلة.
وعلى خلاف شمال القارة الأميركية، التي يزورها الفلسطينيون بحثاً عن إسناد سياسي أميركي في واشنطن، أو إنصاف دولي في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، فإن جنوب القارة الأميركية شكل حاضنة شعبية وسياسية لطالما وقفت إلى جانب القضية الفلسطينية منذ ظهورها قبل نحو قرن من الزمان.
ومع أن الموقف السياسي للرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز، قد غطى على مختلف مواقف قادة ونشطاء دول أميركا الجنوبية، وهم في الغالب من أنصار اليسار الاشتراكي، الذي نازع الإمبريالية الأميركية والأوروبية، وقاومها لقرون طويلة قبل أن يفرض خياراته السيادية، التي لا تزال تمانع الخضوع لما تسميه بالسياسات الإمبريالية الغربية، وإن تجاوبت جزئياً مع بعض مطالب صندوق النقد الدولي، لمواجهة تحدياتها الاقتصادية.
وتعتبر تشيلي، الواقعة في الجزء الجنوبي الغربي لقارة أميركا الجنوبية على محيط الباسفيك، من أكثر دول أميركا الجنوبية نمواً اقتصادياً، ويعيش فيها قرابة 20 مليون نسمة، يشكل الفلسطينيون منهم قرابة 2.5%، وهم مكون رئيسي للدولة ويساهمون بشكل كبير في نماء البلد عبر إدارتهم لمراكز التجارة الرئيسة في البلد في البنوك وقطاع العقارات والأسهم والزراعة وغيرها.
الطريق من العاصمة البريطانية لندن، التي أسكنها منذ أكثر من عقود من الزمان، إلى عاصمة تشيلي سانتياغو، تقارب 20 ساعة أو تزيد، على متن الخطوط الجوية البريطانية، مسافة قطعها الفلسطينيون الأوائل الذين أتوا إلى هذه الديار في عدة أشهر جزء منها عبر الموانئ وباستخدام سفن شحن (البابور)، وبعضها الآخر عبر حافلات، أو مشياً على الأقدام في مناطق جبلية وعرة لا تشقها الطرقات.
ترك مئات الفلسطينيين، مطلع القرن الماضي، وقبل أن يرتسم مشروع الاحتلال، ديارهم في بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور بحثاً عن موطن يضمن لهم إمكانيات العيش بكرامة، إلى أن وصلوا إلى تشيلي، التي سكنوها وعمّروها إلى جانب مكونات عرقية أخرى من دول أوروبية متعددة، وهم (الفلسطينيون) الآن يديرون نحو 70% من بنوكها الرئيسية.
ثم جاء الاحتلال الصهيوني بجرائمه البشعة، ليشرد المزيد من أبناء شعبنا الفلسطيني، الذين انتشروا في مختلف أصقاع قارات العالم القديمة والحديثة، لتكون مشتركة جميعها في الشهادة على جريمة تشريد شعب من دياره من دون ذنب اقترفه، وما زال هذا الشعب يكابد المنافي وويلاتها إلى يوم الناس هذا.
وكواحد من أبناء جيل فلسطيني، يشعر بالمسؤولية الوطنية تجاه بلاده، شدتني مواقف قادة دول أميركا الجنوبية، وإسنادهم الشعبي للقضية الفلسطينية، ورفضهم لسياسات الاحتلال المنافية لكل القوانين الدولية، فيممت وجهي إلى سانتياغو، التي اكتشفت أنها أنشودة فلسطينية متنوعة، تمتزج شوارعها بخارطة فلسطين، وكأنها تصوغ مقولة الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، "إن الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة".
تقول الأرقام إن عدد فلسطينيي أميركا الجنوبية يفوق عددهم 600 ألف نسمة، وإن معظمهم يتواجد في تشيلي، حيث يقدر عددهم بحوالي 400 ألف ويتوزع الباقي على الدول المجاورة مثل البيرو وفنزويلا والأرجنتين والبرازيل وكولومبيا وبوليفيا والأوروغواي والهندوراس. ولأن الانتشار الفلسطيني في تشيلي كبير، فإن بعض الأمثال الشعبية في تشيلي تردد أن هناك ثلاثة أشياء يجب أن تجدها في كل مدينة وقرية وهي قسيس (رجل دين) ورجل شرطة وفلسطيني.
وراء هؤلاء جميعاً قصص طويلة من معاناة الرحيل وصولاً إلى تشيلي، ونحت الكيان، الذي استحال إلى مواطنة شبه تامة، لكنها المواطنة التي لا تجب الانتماء الفلسطيني، الذي يكتشفه كل زائر لهذه الديار في الشوارع والأسواق والأندية الرياضية والمدارس والجامعات كما في البرلمان وأقبية الحكومات.
قصص فلسطينيي تشيلي، التي أتيت رفقة فريق إعلامي لاكتشافها في أسبوع حافل بالفعاليات الفكرية والفنية والثقافية، تردد ذات معارك العودة التي يخوضها الفلسطينيون المنتشرون في كل أنحاء العالم، بأنهم لن يقبلوا بوطن بديل، ولسان حالهم يردد مع أبي تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبداً لأول منزل
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.