منغصات يومك الشتوي في منطقة الشرق الأوسط تبدأ من تلك اللحظة ما بين الوعي ونقيضه، عندما تناضل لتبقى في حلمك، ولا تستيقظ لتصطدم بالواقع الذي تعرفه جيداً، ثم تتوالى محاولاتك اليائسة لإبقاء الغطاء الدافئ على جسدك وتمرير الماء البارد على وجهك، وبعد ذلك إقناع نفسك بأنك صانع لحظتك، وأن يومك سيكون مميزاً على غرار الروتين القاتل.
مع بداية الشتاء يضرب وجه العباد داءٌ وضيعٌ، يمتص حياتك من فمك وشفتك، فيتركك شخصاً يعمل أعواماً في نحت جبل الرومانسية والحب، وحينها قررت بدء يومي بابتسامة عريضة؛ لعلي أخادع حظي، ويكون يومي على عكس أمسي، فأصبحت أجفف الدم عن شفتي وأخرج لعملي بلاصق جروح كراية استسلام وضعها المنتصر على وجهي بعد شجار في أحد طوابير حياتنا المُجدوَلة.
وإلى هنا تنتهي المنغصات، وتبدأ عوامل الاستفزاز، بالبحث عن نقل النقود، وهي كل ما تملك، لتركب سيارة الأجرة وأنت نصف صاحٍ ترتدي قبعتك ونظارة شمسك الرخيصة، وعلى صوت المذياع الذي يعيد أخبار السنة الماضية بتواريخ مختلفة، يبدأ السائق بالشكوى، ولعن الواقع، ومخالفات المرور والزبائن البخلاء، وآخرون من زملاء الطريق يتحدثون عن شخص لعب "الزهر" معه، واختلف حاله، وأنت تجاهد نفسك بالبقاء لبقاً حسن المعشر.
ألا يستحق ذلك أن تعرّفهم على توأمك المختفي الذي يظهر عند معدلات معينة من الأدرينالين؟
هل تنتهي المعاناة هنا؟ بالتأكيد لا، فالأنموذج الأخير كالفيروسات يتكيف مع مختلف الأماكن والبيئات، تقف تنتظر المصعد ليس كسلاً ونفوراً من الرياضة؛ بل لأن عملك في الطابق الأخير من البناية، تنتظر وقد تجد زميلاً تعرفه تتجاذب معه أطراف الحديث، وفجأة ودون سابق إنذار يزدحم المدخل بسيدات من مختلف الأوزان، لا أعرف ما الحق الذي تمتلكهن ليأخذن دورك؟!
حسناً، لو أطلقت وقتها العنان لخيالك الخصب بالتعليقات الساخرة بأسلوب قصف الجبهة ليس هناك عاقل يمكنه لومك واتهامك بأنك لست "جنتلمان".
تصل بطريقة ما لعملك، وبعد أن يعاندك جهاز تسجيل الدخول ثلاثاً، تبدأ التعليقات لزملاء العمل حول سبب وصولك "مبكراً ونشيطاً" دائماً، وبعد ذلك يبدأون الافتراض أني سهرت للفجر أحدث صديقتي، أو أشاهد مباراة أو فيلماً، لكن ببساطة لا يفهمون أن الناس تختلف عن بعضها، ما يقبله شخص قد يرفضه آخر.
من يمكنه إفهام هؤلاء أن ذلك ليس من شأنهم، وأن مسؤولي المباشر الذي يأتي متأخراً عن تأخري بساعة كاملة هو المخول بالسؤال والاستفسار عن ذلك؟
لو وصلت حتى هذه المرحلة دون التحول لـ"مدفع غوستاف" فأنت من "الفئة الصابرة".
وعلماً أن فن قصف الجبهة حاله كحال كل شيء في الشرق الأوسط، لا يمكن الحصول عليه بسهولة، فهو يحتاج إلى سرعة بديهة وذكاء وثقافة وبعد نظر وجرأة، كما حصل في تصريح لتشرشل عندما كان يجلس في دورة المياه وطالَبه اللورد حارس الخاتم باللقاء، وكان رد رئيس الوزراء التاريخي لبريطانيا "أخبروه أنني لا أستطيع التعامل مع قطعتين من الخراء في آن واحد".
تغادر عملك تعود إلى سيارة الأجرة وقصتها، وتدخل صالون الحلاقة، ويجبرك الحضور وصاحب المقص على المشاركة في حديث لا تجد منه طائلاً أو فائدة، ولا يزيد يومك إلا خيبات واستفزازات.
نعم، نعم ضع اللباقة على جانب، وأفسح المجال للسخرية والتهكم، قل للحلاق عندما يسألك وأنت تحت رحمة موسه مستسلماً لحلق لحية طولها اقترب من طول أزماتك ولونها أشد من سواد ليلك، كيف تريد أن أحلق لك؟
رُدَّ عليه: أريد أن يُحلق لي بصمت!
البعض يرى مسألة قصف الجبهات من الصيحات الجديدة لمواقع التواصل، لا تزيد المجتمع إلا تفككاً وسخفاً وتفاهة، وأنّ ما يطلق عليهم "مشاهير العرب" هم من ابتكروها.
أجاوبهم: متى آخر مرة نظرتم إلى حال مجتمعكم؟ متى آخر مرة حققتم فيها نصراً شخصياً؟ ومتى آخر مرة أذعنتم للحقيقة وأعلنتم الهزيمة بنبل الفرسان؟
حين أقصف جبهتك بقوة أنت مجبر على الاستسلام وعلى الإذعان لتفوقي عليك، وأنا على هذا الدور أيضاً، وهنا الفكرة في خلق مسألة "قصف الجبهات" فضاء عادلاً للناس ليسوا الخاسرين دائماً فيه، بل هناك فرصة حقيقية لمحاولة الهروب بربحٍ سخيفٍ من خيبات المجتمع العربي المتكررة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.