مرت ثلاثة عشر قرناً تقريباً على وضع علماء العقيدة الإسلامية برهان بطلان التسلسل، وليومنا هذا لم نسمع نقداً له، وكل ما هناك إما هروب ماكر وإما تجاهل مخادع وإما تسخيف سخيف، لا يرقى أن يقال عنه نقد أو أي شيء من هذا القبيل.
لهذا البرهان، برهان بطلان تسلسل، صيغ كثيرة؛ منها صيغة الفيلسوف أرسطو، فأرسطو افتراض أن الكون أزلي، ولكنه رأى نظاماً ورأى جمادات في حركة دائمة، والجمادات لا تتحرك بذاتها؛ بل يجب من يحركها، ويجب عليه ألا يكون جماداً هو الآخر، ويجب ألا يكون متحركً؛ لأنه سيأتي سؤال من حركة المحرك فنجد أنفسنا وقعنا في تسلسل وتسلسل باطل عقلاً. لهذا يجب، أن يكون هناك محرك لا يتحرك، والعقل يجب أن يكون هذا المحرك مكتفياً بذاته مستغنياً عن غيره، لهذا يجب أن يكون هو الله.
سنأخذ هنا البرهان في صيغة علماء العقيدة الإسلامية؛ لأنه أشمل وأقوى أيضاً، لو قلت لك سأعطيك مبلغاً من المال بشرط أن يوافق أحمد، ستذهب إلى أحمد وتأتي بموافقته وستأخذ المال، أخذك للمال يسمى أثراً وأحمد يسمى مؤثراً.
المثال الثاني: لو قلت لك لن أعطيك المال قبل أن يوافق أحمد، وقبل أن يوافق أحمد عليه أن يوافق عليّ، وقبل أن يوافق عليّ يجب أن يوافق عمر، ستذهب إلى أحمد وعلي وعمر وستأخذ المال، أحمد وعليّ يسميان مؤثراً (موجود بغيره)، وعمر (موجود بذاته واجب الوجوب) يسمى مؤثراً لا يتأثر، بمعنى أنه لا يحتاج موافقة أحد عكس أحمد وعلي.
الآن، لو قلت لك: لكي أعطيك مبلغاً من المال، يجب أن تأتي بموافقة، ووضعت لك سلسلة لا نهاية لها بمعنى أني نزعت المؤثر الذي لا يتأثر، فهل ستأخذ المال؟ عليك أن تذهب إلى المؤثر الذي لا يتأثر، ولكن أين هو نحن تسلسلنا إلى ما لا نهاية، النتيجة لن يحصل الأثر ومن ثم فلن تحصل على المال.
الآن، الكون موجود (هو المبلغ من المال)، فيجب له واجب الوجود سبحانه، فإن قلت إنه ليس هناك إله (واجب الوجوب)، كأنك تقول: لا كون لا إنسان. والحاصل أنه هناك كون وهناك إنسان، فيجب أن يكون هناك واجب الوجوب سبحانه، ولكي تفترض أن لا إله فأنت لا تفعل شيئاً غير أنك تكفر بالعقل، إضافة إلى كفرك بالله فتكون قد جمعت السوءتين.
إن لكلّ ممكن (محتاج وفقير) علّةً تفيض عليه الوجود والتحقق، فإنها في حد ذاتها مفتقرة إلى علة تُوجدها، فإن وجدت علتها وجدت هي معها وإلا فلا. ومن هنا، فإن كلَ عاقلٍ سويّ يذعن بأنَ لكلِ مصنوع صانعاً ولكلّ مخلوق خالقاً ولكل معلول علّة، فما دام الموجود في ذاته مفتقراً في وجوده وتحققه فلا بد أن يكون مرتبطاً بسبب أفاض عليه الوجود والتحقق، وهذا بخلاف ما لو كان الموجود في ذاته غنياً عن غيره في الوجود (القصد هنا هو الله)، فلا معنى لاحتياجهِ إلى علة تفيض عليه الوجود ما دام غنياً عما سواه في ذلك؛ إذ الوجود بالنسبة إليه متحقق، وهذا من قبيل عدم احتياج السكر إلى سكر حتى يكون حلواً، فما دام حلواً فلا معنى لاحتياجه إلى السكر.
أحد الاعتراضات جاءت من برتراند راسل يقول: تلك الحجة على ما أظن ليس لها وزن كبير هذه الأيام؛ لأن سبب المقام الأول ليس هو تماماً ما كان عادة؛ إذ إن الفلاسفة ورجال العلم استمروا في تناول مسألة السبب فوجدوا أنه ليس له تلك الحيوية التي كانت له من قبل. لاحظ أنه قال "العلماء والفلاسفة" ولم يقل من هم؟ وهل فعلاً كل العلماء وكل الفلاسفة على رأيه؟ طبعاً وقطعاً لا؛ لأن كثيراً من الفلاسفة يستدلون به؛ الغزالي وتوما الإكويني وابن رشد والفارابي وألفن بلانتيجا وآخرون كثر. نعم إنه هروب ماكر من الحكيم العالمي برتراند راسل.
ولكن، لماذا أقحم راسل العلماء في مسألة وجود الله من عدمه؟ العلماء أدواتهم لا تسمح بمناقشة هذه القضية، ولو سمحت لهم فذلك سيكون بصفة أنهم فلاسفة وليسوا علماء. لاحِظ أيضاً أنه قال: إن الدليل لم يُبقِ له تلك الحيوية التي كانت له من قبل ولم يقل: إنه تم تزييفه. ولكن، ما الذي جعل راسل يعترض فيقول فإذا كان ينبغي أن يكون لكل شيء سبب إذاً ينبغي أن يكون للإله سبب، وإن كان من الممكن أن يكون هناك إله من دون علة أو سبب، فيمكن إذاً أن يكون هناك عالم من دون علة أو سبب مثل الإله تماماً، أولاً نحن المؤمنين نقول: إن كل حادث لابد له من محدث، والله ليس حادثاً.
ثانياً: لو افترضنا أن الكون ليس بحادث، فهذا لا يغني عن الله؛ لأن هناك حركة في الكون، والكون عبارة عن جمادات، والجمادات لابد لها من محرّك، والكون منظَّم أيضاً وكل منظم لابد له من منظم. لكن، هل الكون قديم كما افترض راسل؟ الجواب: لا؛ لأن هناك قانون الديناميكا الحراري الثاني، وهناك أيضاً نظرية الانفجار الكبير، التي أصبحت حقيقة، تنقض قوله وتثبت قول علماء العقيدة الإسلامية، الذين قالوا بحدوث العالم قبل قانون الديناميكا الحراري وقبل الانفجار الكبير استناداً إلى القرآن الكريم.
ولكي لا أترك القارئ الكريم بلا دليل بخصوص عدم جدارة العلماء بمناقشة قضية وجود واجب الوجود سبحانه، نأخذ عينة من أقوالهم؛ يقول ريتشارد دوكنز بخصوص برهان بطلان التسلسل: الافتراض الذي لا مبرر له هنا هو الله المنيع عن الزمان. وردنا عليه هو حسب نظرية الانفجار الكبير التي أصبحت حقيقة، فإن الزمان والمكان والمادة خلقوا مع الانفجار الكبير، والذي يعني أن من أوجد المادة والزمان والمكان ليس تحت سطوة لا المادة ولا الزمان ولا المكان؛ لأنه كان قبل أن يوجدوا، إن لم يكن العلة الأولى هو الله، فمن يكون في رأي سيادتكم؟ بابا نويل مثلاً!
هناك -سيادتكم- بصمات أخرى تدل على أن من أحدث الانفجار الكبير عظيم وحكيم وقادر، والعالم الفيزيائي الكبير بول ديفيز يشهد بهذا، يقول: لقد دلت الحسابات على أن سرعة توسُّع الكون تسير في مجال حرج للغاية، فلو توسَّع الكون بشكل أبطأ بقليل جداً عن السرعه الحالية لتوجه إلى الانهيار الداخلي بسبب قوة الجاذبية، ولو كانت هذه السرعة أكثر بكثير عن السرعه الحالية.. لتناثرت مادة الكون وتشتت الكون، ولو كانت سرعة الانفجار تختلف عن السرعة الحالية بمقدار جزء من مليار جزء لكان هذا كافياً للإخلال بالتوازن الضروري، لذا فالانفجار الكبير ليس انفجاراً اعتيادياً؛ بل عملية محسوبة جيداً ومنظمة من جميع النواحي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.