حلب تباد بلا هوادة وفي إبادتها كتبت شهادة وفاة الرحمة على الأرض، حلب تباد على مرأى ومسمع من حكومات وشعوب العالم أجمع كأنهم يشاهدون فيلماً سينمائياً مرشحاً للفوز بجائزة الأوسكار، ربما يستاء بعضهم لأن أنهار الدماء الذكية التي أريقت في حلب قد تُغرق السجادة الحمراء، وربما يزداد استياؤهم لأنهم سيفاجأون بأن عدسات المصورين لن تنقل لهم من الصور المبهجة التي ينتظرونها بشغف قدر ما سوف تنقله لهم من صور آباء مكلومين يحملون جثث أبنائهم وأمهات ثكالى وفتيات في مقتبل العمر، وقد تعرضن لأبشع أنواع الانتهاكات الجسدية والجنسية على حد سواء على أيدي كائنات وضيعة تبدو كما لو لم تكن من خلق الرحمن الرحيم.
حلب تباد كما أبيدت من قبل بغداد، ولكن حينما تعرضت بغداد للإبادة ثارت الشعوب العربية وخرجت إلى الشوارع والميادين ولو في مظاهرات رمزية، أما اليوم ورغم بشاعة وقسوة ودناءة ما وقع بحلب فالشوارع خالية هادئة؛ إذ باتت شعوبنا العربية كأن كلاً منها يغنّي على ليلاه، فاختفى الإسلاميون وتوارى الليبراليون، فيما
بات القوميون الناصريون يحتفلون بإبادة حلب جهاراً نهاراً بلا خجل!
فإذا ما نظرت بعينيك إلى عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج، لرأيت البعض غير مكترث بما يجري في حلب، مبالِغاً في الاحتفال بمولد سيد الخلق الذي تنبأ بما نحن عليه الآن، حيث أصبحنا "كغثاء السيل"! سترى البعض يحتفل بذكرى تأسيس حركة سياسية على أنغام مقام العجم! سترى البعض يحتفي بإقامة مباراة كرة قدم ودية أمام إحدى الفرق الأوروبية العتيدة، في مقابل ملايين الدولارات وسط احتفالية ضخمة تزينها
الألعاب النارية! سترى البعض وقد أخذته الحماسة في متابعة فريق كرة القدم الذي يشجعه في بطولات وهمية هزلية ضعيفة يملأها الفساد! سترى البعض وقد أخذته دروب السياسة لعقد صفقات مع القتلة على حساب الأبرياء المناضلون من أجل حرياتهم!
أما نحن، فقد كتب علينا أن نكتفي بمتابعة ومشاهدة هذا وذاك، فلم نعد نمتلك سوى الشجب والاستنكار
والإدانة، حتى التظاهر صار درباً من دروب الرفاهية التي لم نعد نمتلكها الآن!
أما رفع أكف الدعاء، فربما أصبح خنجراً في ظهور أهل حلب، فكيف لنا بدعوة مستجابة وبيننا وبين السماء ألف ألف حجاب ومتاريس وأسلاك شائكة! كيف لنا بدعوة مستجابة بعد أن قمنا بتغيير القِبلة من مكة إلى واشنطن عكس رغبة الإله! كيف لنا بدعوة مستجابة وقد باتت بلداننا العربية والإسلامية تقوم بمناسك الطواف حول مقر الأمم المتحدة راكعة ساجدة مسبحة بحمد النظام العالمي! كيف لنا بدعوة مستجابة وقد احترف الملايين منا العبودية لفرعون وتجرّأوا على خالقه! كيف لنا بدعوة مستجابة وقد أصبح مفهوم الجهاد في عقول مشايخ الأمة من أصحاب اللحى الطويلة، مقتصراً على غزوات صناديق الانتخابات، وفي عقول شبابها فتحاً لغشاء بكارة في ليلة عرسٍ أو نضالاً على الفراش في ليلة حمراء!
كيف لنا وقد صار تبريرنا للأخطاء مقدماً على إنسانيتنا! يقصص لنا التاريخ أنه في أواخر القرن الثاني الهجري حينما كان خليفة المسلمين في ذلك الوقت "المعتصم"، عانت البلاد فتنة عظيمة قادها "بابك الخرمي"، سخر لها المعتصم الجهود والأموال كافة للقضاء عليها، مرسلاً جيشاً ضخماً بقيادة "الإفشين"؛ للقضاء على "بابك".
في هذه الأثناء، حاول إمبراطور الروم "ثيوفيلوس" استغلال الموقف، مقرراً غزو بلاد المسلمين بجيش عظيم قوامه 100 ألف مقاتل. وبالفعل، نجح في مهاجمة ثغور الدولة الإسلامية بدءاً بـ"زبطرة" التي ارتكب فيها أبشع الجرائم؛ من قتلٍ للأطفال والشيوخ وتمثيل بجثثهم وسبي لما يزيد على الألف امرأة بعد ذبح أطفالهن، ثم أغار على "ملطية" ففعل بها وبأهلها ما فعل بـ"زبطرة". وقيل إن امرأة في إحدى الأسواق حاول أن يتحرش بها رجل من الروم ممسكاً بطرف جلبابها، فصرخت: "وامعتصماه!".
فلما بلغ المعتصم الخبر، استعظم ما حدث منادياً: "النفير النفير"، وقام بتجهيز جيش عظيم لم يجهّزه أحد قبله، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والدواب شيئاً لم يسمع بمثله من قبل، ثم سأل: أي بلاد الروم أمْنع وأحْصن؟ فقيل له: "عمورية" لم يتعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام وهي عين النصرانية وأشرف عندهم من القسطنطينية، فأمر بالسير إليها وضرب عليها حصاراً محكماً. وفي تلك الأثناء، بعث إمبراطور الروم برسالة إلى المعتصم يطلب منه الصلح ويعتذر له عما فعله وأن يفرج عن أسرى المسلمين الذين كانوا عنده، إلا أن المعتصم أبى الصلح، ولم يطلق سراح الرسول حتى فتح "عمورية" على الرغم مما تعانيه بلاده داخلياً.
أما اليوم، فصناعة الأصنام من الرؤساء صارت صنعة العرب والمسلمين التي يتقنونها، ولا ريب من التبرير لسقطاتهم للحفاظ على صورتهم التي صنعوها لهم كخلفاء للمسلمين في خيالاتهم المريضة.
أيها الحالمون بمستقبل مشرقٍ اليوم، تباد حلب، وبالأمس بغداد والقدس، وغدا القاهرة ومكة، وستدور الدائرة على الجميع، وسنظل جميعاً على العهد الذي قطعناه على أنفسنا منذ تأسيس جامعة الدول العربية؛ نعقد الجلسات الدائمة ونملأها صخباً وضجيجاً وانفعالات مصطنعة، وسننتهي إلى بيان هزلي -اعتدناه دائماً- مذيل بعبارات، مدادها العار، مفادها أننا -وبكل تحدٍّ- نشجب ونستنكر وندين!
أما أنتم أيها الشهداء الأبرار، فستملأون الجنة، وربما من كثرتكم لن يتبقى بها مكان لهذه الملايين البائسة المتعبّدة بصلوات صارت في زماننا هذا كالحركات البهلوانية تؤدَّى بلا حس ولا إدراك، وأذكار يتمتمون بها أصبحت في زماننا هذا كالعبارات الجوفاء التي تُنطق بلا وعي ولا قيمة عكس ما أرادها الله منا، لتصبح الحقيقة الوحيدة في زماننا هذا أن الجنة للشهداء فقط.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.