“الحرية للجدعان”.. مقاومة السلطوية مصرياً

أُطلقت الحملة في أعقاب إلقاء الأجهزة الأمنية القبض على ما يزيد على 1000 من المواطنات والمواطنين في أحداث الذكرى الثالثة لثورة يناير، واتجهت إلى كسر حاجز الصمت بشأن انتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة منذ الانقلاب دون تمييز بين الضحايا المنتمين إلى اليمين الديني والضحايا المنتمين إلى عموم الطلاب والشباب والعمال.

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/17 الساعة 07:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/17 الساعة 07:35 بتوقيت غرينتش

إزاء إلغاء الفضاء العام والحصار الممنهج المفروض على المجتمع المدني ومحدودية فاعلية الأحزاب السياسية إنِ المهادنة أو المعارضة، والتراجع البين في القدرات التنظيمية والجماهيرية لليمين الديني- بدت أوضاع مصر بين 2013 و2016 كأن السلطوية الجديدة قد صارت في إخضاعها للمواطن والمجتمع وسيطرتها على مؤسسات الدولة دون منازع وكأن فرص مقاومتها والضغط السلمي من أجل انتزاع شيء من حقوق وحريات الناس، قد أضحت إلى الخيال أقرب.

ووظَّفت السلطوية أدواتها الإعلامية للترويج لقراءة الأوضاع المصرية على هذا النحو، وأضافت أيضاً تفسيرها التآمري لثورة يناير/كانون الثاني 2011 ومرادفتها التحول الديمقراطي بهدم الدولة ونشر الفوضى وإلحاق البلاد بمصائر سوريا والعراق وليبيا.

حدث ذلك في سياقات إقليمية وعالمية أرادت بها القوى الفاعلة إغلاق ملف "الربيع العربي"، ونعته بالفشل، وإعادة ترتيب أولويات بلاد العرب والشرق الأوسط لتصبح مواجهة الإرهاب متبوعة بمواجهة (أو التورط في) الحروب الأهلية والصراعات المسلحة، متبوعة بسقوط الدول الوطنية، متبوعة بأخطار الهجرة غير الشرعية وأزمة اللاجئين، متبوعة بدعم بقاء أو صعود حكام أقوياء يَعِدون بالأمن والاستقرار ولا تعنيهم حقوق الإنسان والحريات من قريب أو بعيد.

وتماهت ترتيبات حكم ما بعد 3 يوليو/ تموز 2013 مع تلك السياقات الإقليمية والعالمية وأفادت منها، وتحول "الحاكم الجنرال" إلى شريك في الحرب على الإرهاب بالشرق الأوسط، وصُنفت حقائق الانتهاكات والقمع والتعقب في مصر إما كقضايا مؤجلة (كما يراها الغرب) أو كشؤون داخلية لا تعني القوى الإقليمية والدولية (كما تراها حكومات الخليج وروسيا والصين).

تدريجياً، وبفعل استمرار الانتهاكات والقمع والتعقب دون توقف، تملّك الشعور بالإحباط وفقدان الأمل من بعض المطالبين بالديمقراطية ومن بعض المدافعين عن الحقوق والحريات، واتجهت مقاربتهم للأوضاع المصرية أيضاً إلى الدفع بغياب فرص مقاومة السلطوية الجديدة- ولا أستثني نفسي هنا، فقد انزلقت أحياناً إلى خانات الإحباط ذاتها، وهو ما دفع على سبيل المثال الكاتب أكرم إسماعيل إلى تنبيهي إلى خطأ التقليل من شأن أعمال مقاومة السلطوية التي تضطلع بها مجموعات حقوقية وفاعلون مجتمعيون كثر (نشر الكاتب مقاله المعنون "بين 2013 و2016.. هل حقاً تتمكن السلطوية بلا مقاومة؟" على موقع "مدى مصر").

فالترويج لتمكّن السلطوية الجديدة دون مقاومة يتجاهل -دون شك- واقع الحراك المجتمعي بين 2013 و2016 والاحتجاجات الشعبية المتصاعدة ضد الممارسات القمعية وضد السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تحمّل مسؤولية الأوضاع المعيشية المتدهورة لعموم الناس. وبالفعل، ظهرت في واجهة الحراك مجموعات من الفاعلين يتشابه بعضها مع فاعلي ما قبل 2011 ومع الفاعلين المؤثرين في الفترة من 2011 إلى 2013 ويتمايز بعضها الآخر عنهم.

من جهة أولى، تطورت مبادرات احتجاجية ارتبطت بانتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة، وضمّت بين صفوفها طلاباً وشباباً ونشطاء وحقوقيين، وغابت عنها الأطر التنظيمية المحددة، والتزمت كل منها بقضية واحدة؛ مثل: جريمة الاختفاء القسري، أو سلب حرية مواطنين بسبب القوانين القمعية كقانون التظاهر، أو جرائم التعذيب داخل السجون وأماكن الاحتجاز.

مبادرات احتجاجية كمبادرة "الحرية للجدعان" التي تولت الدفاع عن حقوق المسلوبة حريتهم من الطلاب والشباب والإعلاميين تشابهت مع احتجاجات القضية الواحدة، إن قبل 2011 مثل صفحة "كلنا خالد سعيد" (التي وظَّفت حادثة تعذيب وقتْل عناصر أمنية الشاب السكندري خالد سعيد لفتح ملف انتهاكات حقوق الإنسان والتعذيب في مصر ودعت المصريات والمصريين للاحتجاج العلني في يناير 2011) أو بعد 2011 مثل "اتحاد شباب ماسبيرو" (الذي تشكل في أعقاب مذبحة ماسبيرو التي قتلت فيها قوات من الجيش والشرطة عشرات المتظاهرين الأقباط في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2011 ويطالب بالمساءلة القانونية للمتورطين في المذبحة وبإقرار حقوق المواطنة المتساوية للمصريين الأقباط).

من جهة ثانية، نشطت بين 2013 و2016 نقابات مهنية اشتبكت مع السلطوية الجديدة بشأن قضايا تتعلق بالدفاع عن استقلال النقابات، وغلّ يد الأجهزة الأمنية والاستخباراتية عن العبث بداخلها، والانتصار لحقوق وحريات الأعضاء ومن بينها حرية اختيار ممثليهم والحماية من التعرض لاعتداءات الأمن وللممارسات القمعية، والتعبير العلني عن الرأي فيما خص قضايا نقابية أو قضايا عامة. وبرزت هنا، نقابة الأطباء ونقابة الصحفيين اللتين اضطلعتا في 2015 و2016 بأدوار حاسمة في مقاومة السلطوية.

من جهة ثالثة، أخفقت السلطوية الجديدة أيضاً في القضاء على الحراك العمالي، ولم يفلح المزج بين القمع والتعقب، وإجراءات الترهيب، المتراوحة بين الفصل التعسفي من مكان العمل وإحالة بعض العمال المحتجين إلى القضاء العسكري، في إنهاء الاحتجاجات العمالية. بين 2013 و2016، تواصلت الاحتجاجات العمالية باستخدام أدوات التظاهر والاعتصام والإضراب وللمطالبة بحقوق اقتصادية واجتماعية معروفة جيداً، وامتدت خريطة الاحتجاجات العمالية لتشمل القطاعين العام والخاص ولتجمع بين العمال والموظفين (سلك الخدمة المدنية).

من جهة رابعة، لم تتمكن السلطوية الجديدة من الضبط الأمني للجامعات الحكومية والخاصة ومن القضاء التام على الحراك الطلابي. استخدمت السلطوية كل ما في جعبتها من أدوات للقمع والتعقب ومن أدوات للحصار باسم القوانين واللوائح والإجراءات؛ بل واستعانت بشركات أمن خاصة للوجود داخل حرم الجامعات، ودفعت الإدارات الجامعية لإنزال عقوبات قاسية بالطلاب غير الممتثلين، وسلبت حرية بعضهم، وأحالتهم إلى المحاكم.

رغم ذلك، استمرت الجامعة بين 2013 و2016 كمساحة رئيسية لمقاومة السلطوية تارة بالتظاهر، وتارة بالاعتصام، وتارة بالمشاركة الكثيفة في انتخابات الاتحادات الطلابية لإنجاح مرشحين غير مرشحي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.

من جهة خامسة، تكرر خروج بعض المواطنات والمواطنين إلى المساحات العامة للاحتجاج على قرارات وإجراءات وممارسات حكومية بعينها؛ كتورط عناصر أمنية في تعذيب وقتل مصريين داخل أماكن الاحتجاز الشرطي (كما حدث في 2015 و2016 في مدينتي الأقصر والقاهرة)، أو للاعتراض العلني على سياسات حكومية (مثل توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية الذي تلاه لعدة أيامٍ مظاهرات شعبية واستنفار أمني واسع).

ولأن السلطوية الجديدة أحكمت سيطرتها على المساحات الإعلامية التقليدية (إن ذات الملكية العامة أو الخاصة)، اضطلعت شبكات التواصل الاجتماعي بأدوار رئيسية في إخبار الناس، إن بوقائع التعذيب والقتل أو بتفاصيل السياسات الحكومية وحفزت بعضهم على الاحتجاج العفوي وبسلمية. ولم تتوقف مثل هذه الاحتجاجات العفوية رغم القمع البالغ الذي وُوجهت به والكلفة الباهظة التي تحملها بعض المحتجين عنفاً أمنياً وسلباً لحريتهم.

بالقطع، حاولت السلطوية الجديدة أن تدير أمنياً مبادرات القضية الواحدة والحراك النقابي والطلابي والعمالي كما الاحتجاجات العفوية، واستخدمت أدوات القمع المباشر وأدواتها القانونية الموظفة لتهجير المواطن ولإغلاق الفضاء العام للسيطرة على الفاعلين المشاركين.

بين 2013 و2016، استعادت السلطوية ماضي الحصار الأمني للنقابات المهنية وللحركات الطلابية والعمالية، وأضافت إلى قوائم المسلوبة حريتهم نشطاء يدافعون عن حقوق وحريات القابعين وراء أسوار السجون وأماكن الاحتجاز ومواطنات ومواطنين خرجوا عفوياً وسلمياً إلى الشارع لمعارضة قرارات وممارسات حكومية.

تكررت مشاهد ما قبل 2011، مثل التفخيخ الأمني للنقابات المهنية التي تعارض مجالس إدارتها المنتخبةُ السياسات الرسمية، والصراعات المصطنعة بين المجالس المنتخبة وأعضاء في النقابات عُرف عنهم التبعية للأجهزة الأمنية والاستخباراتية، والأطواق الشرطية المحيطة بمقرات النقابات وبالمصانع التي تحدث بها مظاهرات أو اعتصامات أو إضرابات، والإحالة السريعة لنشطاء ومتظاهرين عفويين إلى عمليات تقاضٍ (إن أمام القاضي المدني – الطبيعي أو أمام القاضي العسكري) تنتهي بسلب الحرية.

غير أن السلطوية الجديدة وجدت بين 2013 و2016 صعوبات حقيقية في كبح جماح أنماط الحراك هذه وواجهت تحديات قوية رتبت تنازلات جزئية من قِبل مؤسسات وأجهزة حكومية مختلفة. وبدت السلطوية هنا في مأزق مجتمعي وسياسي عميق يتناقض مع سيطرتها شبه المطلقة على المساحات الإعلامية التقليدية، وإغلاقها للفضاء العام، وحصارها للمجتمع المدني، وتسفيهها للمساحات الرسمية لممارسة السياسة وللأحزاب السياسية.

ومن بين النماذج الملهمة لمقاومة السلطوية الجديدة وانتهاكاتها، تأتي حملة "الحرية للجدعان" التي أطلقتها مجموعة من الحقوقيين والنشطاء من الطلاب والشباب والإعلاميين في بدايات 2014؛ للدفاع عن المسلوبة حريتهم لأسباب سياسية ولتحسين أوضاعهم داخل السجون وأماكن الاحتجاز.

أُطلقت الحملة في أعقاب إلقاء الأجهزة الأمنية القبض على ما يزيد على 1000 من المواطنات والمواطنين في أحداث الذكرى الثالثة لثورة يناير، واتجهت إلى كسر حاجز الصمت بشأن انتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة منذ الانقلاب دون تمييز بين الضحايا المنتمين إلى اليمين الديني والضحايا المنتمين إلى عموم الطلاب والشباب والعمال. في المؤتمر الصحفي الذي أُعلن فيه عن المبادرة، أكد بعض أعضاء الحملة عزمهم القيام "بوقفات ومسيرات للمطالبة بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين"، ومن ضمنهم المنتمون إلى جماعة الإخوان الذين لم يثبت عليهم ارتكاب أعمال عنف أو أعمال إرهابية.

بين 2013 و2016، استندت الحملة إلى توظيف شبكات التواصل الاجتماعي لنشر الحقائق والمعلومات عن المسلوبة حريتهم، وتنظيم فعاليات تضامنية مع الضحايا، ابتعدت تدريجياً عن المساحات العامة بسبب الكلفة الباهظة للخروج إلى "الشارع" في ظل قانون التظاهر القمعي وارتكزت إلى الفضاء الافتراضي على مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وإعداد فرق المحامين للدفاع القانوني عن المسلوبة حريتهم، والتعريف بعمليات التقاضي التي يواجهونها، ومتابعة أوضاعهم وراء الأسوار، ورصد الانتهاكات من حالات الاختفاء القسري والتعذيب إلى منع الدواء والعلاج الطبي عن المسلوبة حريتهم.

ومن بين أهم القضايا التي تبنتها حملة "الحرية للجدعان"، جاءت جرائم الاختفاء القسري في موقع متقدم، حيث وثَّقت الحملة في تقاريرها عدداً من حالات الاختفاء والاحتجاز الشرطي دون تحقيقات قضائية، معتمدة في ذلك على مصادرها الخاصة، بالإضافة إلى معلومات منظمات ومبادرات حقوقية أخرى والبلاغات المباشرة لذوي ومعارف المختفين قسرياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

أثارت الحملة أيضاً مسألة تعريض المسجونين لأسباب سياسية للحبس الانفرادي، وعملت على توعية الرأي العام بالتداعيات النفسية والبدنية السلبية للحبس الانفرادي من خلال تشجيع المدافعين عن الحقوق والحريات وعموم الناس على التدوين الإلكتروني تحت عنوان "لا للحبس الانفرادي".

نقلاً عن "القدس العربي"

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد