حين لامست نفحات المشيئة الأرض من غير ميعاد، وعندما كان الزمن بِلّورياً يعكس البدايات العظيمة، حينما كان المكان كائناً من الصخب العجول صاحب الأنفاس العميقة، وُلدت الإلياذة السورية، وتحول الكلام إلى نقشٍ على كواثل السفن المضيئة، فالأبجدية المُرسلة حينها لم تُشكل منارات أو نجوماً قطبية، كانت الدنيا بلا اتجاهات والسماء من غير كنائس ومآذن، أما النفوس فكانت مقهورة من هول الأناشيد الكاذبة، فالصوت لاذع إن كان يحمل الكذب في جيوبه، وقاتل إن كان موجهاً للقلب لا للأذن.
لقد كانت النباتات تقوم الليل متزاحمة في صفوف حول المقابر المنسية تبتهل إلى الإله بتصوف وخشوع، وترتجي رفع الصخور عن زهورها الوليدة، انتقلت عدواها الغضّة على شكل أنوار تفتحت في قاسيون وفي قلعة، تعتلي هضبة المدينة القديمة، وفي فُراتٍ تقول عنه العجائز إنه من الأنهار الخالدة، وفي الشوارع الهادئة، وفي الأفئدة النائمة؛ لتتسارع ضرباتها بلحنٍ جديد، وتنمو الحياة فيها كالأقدار الخفيّة.
كسر الغضب فوانيس الخوف، فاندلقت الحناجر كرياح كانت أسيرة، وتهافتت الأيادي تتشابك بعد أن صدئت من صلابة القيود، تمددت أجساد العائدين من الأعماق وبيدهم أومضة نصفها حلم، وبقاياها أجِنة من أحزان مجهولة، لا تبشر إلا بدم وفجيعة، هي البدايات العظيمة عندما ترسو أمام البطش وجدال الجلادين، وترعدُ ببراءتها سُلطةً ما استقبلت عاصفة ولا غيثاً مُذ بنتها السواعد الخشنة، وجعلت من حدودها شوكاً ومن طبقاتها نيراناً من حديد وقلق، بحيث لا تصل نجمة إلى نجمة إلا نهباً.
لقد كان الفجر واضحاً مثل القيامة، حتى قصفوه بمنجنيقات من شظايا الجهات كافة، ثم رفعوا الأغمدة وأخفوا السيوف خلف التروس، وصرخوا بكميات من شر مُطلق، ألهبوا بها الحاضر، وجعلوا الأنقاض مختلطة، بعضها حجارة وبعضها جسد، ثم انضمت لهم مملكة الرجوم المكسية بجلود الماضي، نعم لقد اجتاحت جحافلهم جميعاً مملكة الياسمين بهدرٍ وبطشٍ وبداية مذبحة.
التمس الغاضبون عنفوان الكوكب، ولم يدروا أن الميت لا يحضن الأحياء، وأنّ الحق مهما كان نقياً، إن لم يرتدِ القمصان بياقاتها المرتبة لن يدخل على الأباطرة أصحاب التيجان المنسوجة من دم الرعيّة، وأن وضوح الوحي لا يعني لزوم النصر، إنه حُكم المنافع عندما تطغى على بأس الأقحوان، وتسحق حُلم إنسان بالنوم المريح في كنف وطن تخلو بحيراته من التماسيح.
ابتدع أيها الشعب من ودائع الرنين، مشاعٌ أرضك، وصوتك هذيان، ومطارق الضوء تطرق الفراغ من حولك؛ لتخبرك بأن الذئاب تقود الريح، فشُدُّوا رسن الرمال من النجيع المتصل بالأرض، وامتطوا جياد الريح بجرأة الحفيف حين تضرب العاصفة، ثم رتبوا الأسرّة قبل المغيب، وتقاذفوا بالوسائد كما الصغار، ولكن لا تنسوا ذاكرة التفاح وأرض الياسمين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.