لا أريدها بنتاً.. “البنات بيكسروا القلب بدّي لهم أخ يجبرهم”

صعدت لسرير الفحص، بدأت بتحريك المجس بتروٍّ فوق بطنها، ومتابعة التفاصيل عبر جهاز الألتراساوند، بدا كل شيء طبيعياً، وزن الجنين، وحجمه، وعمر الحمل كان يشير إلى واحد وعشرين أسبوعاً، وتفاصيل الجنين والرحم كانت جيدة

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/11 الساعة 01:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/11 الساعة 01:15 بتوقيت غرينتش

طرقت بابَ العيادة بخفة علمت من طرقاتها أنها غادة، أجبتُ: تفضلي أهلاً وسهلاً، فتحت الباب بيأس كان صرير الباب هذه المرة أكثر يأساً منها ربما؛ لأنها أنهكت قواه ذهاباً وإياباً في هذه الفترة بالذات، دخلت تجر نفسها متثاقلةً شاحبة كانت تبدو منهكةً جداً هذه المرة وعيناها متورمتان وصوتها مختنقٌ تجبر الكلمات نفسها على الخروج بلا شهية، قالت: صباح الخير دكتورة، فأجبتها: صباح النور، تفضلي ارتاحي. جلست وسندت ظهرها إلى المقعد كما لو أنها لم تفعل ذلك لأعوام، تنهدت قليلاً ثم ضمت يديها الاثنتين حول بطنها، كان يبدو الحمل أكثر وضوحاً، وبطنها أكثر استدارةً، أما هي فكانت ملامحها تائهة بعض الشيء، وقسماتها لا تفسر شيئاً، لم يكن مزاجها يسمح بأن أمازحها كما كنا نفعل سابقاً، أردت تلطيف الجو قليلاً، ولكن هي أرادت الدخول إلى الفحص مباشرة، فكان لها ما طلبت.

صعدت لسرير الفحص، بدأت بتحريك المجس بتروٍّ فوق بطنها، ومتابعة التفاصيل عبر جهاز الألتراساوند، بدا كل شيء طبيعياً، وزن الجنين، وحجمه، وعمر الحمل كان يشير إلى واحد وعشرين أسبوعاً، وتفاصيل الجنين والرحم كانت جيدة، قلت: الحمد لله، كل شيء تمام، ولكن اهتمي بغذائك أكثر، ولا تنسي الفيتامينات التي كتبتها لك، استمري عليها، سألتني بتوسُّل: بالله عليك يا دكتورة ولد ولّا بنت؟ أنت عارفة أنا عندي خمس بنات ونفسي بها الولد.. البنات بيكسروا القلب بدّي إلهُم أخ يجبرهم!! أجبتها: يا غادة، توكلي على ربنا، الله يجبر عباده وليس الأولاد أو البنات، ثم ما يأتي به الله خير، المهم تمام الصحة، اسأليه تيسير الأمور، فلا حول لنا ولا قوة بدونه، تمتمت: الحمد لله، ولكن ولد أو بنت.. أخبريني؟
أجبتها: "وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ"، قالت: ونعم بالله، ولكن أنا أحضر إليك منذ اثني عشر عاماً، وأن تخبريني ما إذا كان ولداً أم بنتاً لمَ هذه المرة أنت ممتنعة عن إخباري؟ يعني بنت؟! أنا لست ممتنعة عن شيء، ولكن ما الفرق ولد أو بنت؟ اسمعي قوله تعالى: "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ".

يا غادة، لله الأمر والحكم، قولي رضينا بما رضي الله لنا، والله يدخل عيادتي عشرات النساء تتمنى إحداهن أن تنجب ولو بنتاً واحدة، يدفع الكثير منهن الآلاف علاجاً للإنجاب، ولكن أحيانا لا يحدث؛ لأن مشيئته كذلك، وأنتِ في وافر النعم عندك خمس بنات، فاشكري الله، إذا قدَّر الله لك الصبي سيأتي ولو بعد حين، ثم إن البنات زينة الحياة وبهجتها، كان صلى الله عليه وسلم يقول عن النِّساء إنَّهنّ المؤنِسات الغاليات، كيف للمجتمع أن يكون بدون المرأة الأم التي تلد الرجال، والزوجة التي ما استلذ آدم بطيبات الجنة دون أن تخلق في حياته، والأخت التي وصل رحمها بالرحمن، والابنة التي إن رُبيت بالطريقة الصحيحة كانت ستراً من النار حتى لو كانت واحدة، فكيف بخمس أو ست بنات فهن مفتاح الدخول للجنة؟

تنفست غادة بطريقة عميقة، كان يبدو أن رئتيها مثقلتان كما روحها أيضاً، بدت مقتنعة بكلامي إلى حد لا يمكن أن يشفي ما بروحها من رغبة أن يكون الجنين ولداً، قالت: لكن زوجي لا يتوقف عن مضايقتي بأنه يريد ولداً يحمل اسمه، وأنا ما عاد جسدي يحتمل الحمل أكثر بدأت أضعف، الولد سيمنحني القوة.

حبست أنفاسها هذه المرة وتابعت: توفِّي والدي وأنا صغيرة وتركنا ثلاث بنات مع أمي نصارع الحياة، وتقلبنا رياحها حتى أنهكتنا، كنا وحيداتٍ دائماً، وكانت أمي تقول: لو عندكم أخ ما صار فينا اللي صار. أريد أخاً لبناتي لا أريد أن تمر أي منهن بما مررت به مسبقاً، أنا خائفة.. قاطعتها هذه المرة وقلت: اسمعي يا غادة، دخل أوس الأنصاري على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن لي بنات وأنا أدعو عليهن بالموت، فقال: "يا ابن ساعدة، لا تدعُ عليهن، فإن البركة في البنات، هن المحملات عند النعمة، والمنعيات عند المصيبة، والممرضات عند الشدة، تقلهن على الأرض، ورزقهن على الله".

الإسلام أنقذنا من عتمة الجاهلية، فلا نكره البنات، بل نحب ما أعطانا الله، وعسى أن في هذا كل الخير لك ولزوجك. ثم تغيرت النظرة الاجتماعية للإناث فما عدن في مواطن الضعف كما كنَّ سابقاً، اليوم تتعلم المرأة وتعمل، وتترك بصمتها القوية في مجالات الحياة، وتقود السيارة والطائرة وتسافر، ويحترمها المجتمع لقوتها والتزامها، وتعتلي المناصب السياسية والفكرية، أنت أُم لخمس بنات، ومن رحمهن سيولد الشباب الذين بنور عطائهم وفكرهم يمكن للمجتمع هذا أن يصبح أفضل وأعلى.

كم من النساء يا غادة أشرق التاريخ بشمسهن فها هن أمهات المؤمنين نبراس العفة والطهارة، وها هي عائشة بنت أبي بكر تروي عن الرسول ما يزيد عن الألفين ومائتي حديث، وها هي رحمة زوجة النبي أيوب تسطر لنا معنى الزوجة الصابرة المؤازرة لزوجها، وها هي ماري كوري تقدم للكيمياء والفيزياء وعلوم الأشعة الطبية ما لم يقدمه أحد.. وكثير من النساء وقفن للعلم والمعرفة بأيدٍ سخية، وكتبن للتاريخ ما لم يتوقعه أحد.

بدأت غادة تشعر بالارتياح، لكن بدا أنها تعيش وهماً وخوفاً يسكنها، أدركت حينها أن المشكلة أعمق من كونها ولداً أو بنتاً.. غادة تعيش وهم الماضي؛ حيث لم يكن لها والد ولا أخ، واليوم زوجها لا يكرمها كما يجب لروحها ونفسها أن تشعر بالأمان.

غادة تشعر بالوحدة أكثر من الألم، هي تحب البنات، ولكن تريد لهن أخاً كي لا يشعرن بالضعف كما هي تشعر.. عليها أن تدرك أن القوة تنبع من أعماقنا وإيماننا بأهمية وجودنا، نحن نقوى بأنفسنا فقط.

نزلت غادة عن السرير، همهمت بصوت خافت: مع السلامة.. لم يكن هناك مجال لقول المزيد، فالكثير من النساء ينتظرن خارج ذلك الباب على أمل من أن تقال لإحداهن "يا ماما".. ولعلَّ الوقت يشفي الجميع حتماً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد