ما الذي يدفعني للبقاء في وطن كل ما فيه يدعو للموت؟ أعطني سبباً واحداً يجعلني أقرر البقاء؟ تساؤلات وقعت في ذهني بينما كنت أشاهد لحظات وقوف الأم المكلومة أمام جثة ابنها الذي غرق بينما كان يحاول الهروب، الهروب من الجحيم، الهروب من وطن لم يعد متاحاً فيه فرصة للحياة، مجرد الحياة فقط، فالموت يحيط بنا من كل اتجاه بعد ما جرده مغتصبوه من كل المقومات التي تليق بوطن.
مشهد متكرر اعتدنا على رؤيته في مصر مراراً وتكراراً بعد الانقلاب العسكري الذي جعل الموت مشهداً مألوفاً لم نعد نكترث لرؤيته في كل لحظة تمر علينا، بينما ينغمس أمراء الدم هؤلاء في البحث عن مصدر استثمار جديد لتتضاعف ثرواتهم وتتفاقم آلامنا.
لقد طال القهر الجميع حتى الأطفال لم تعد تكترث بطفولتهم وأصبحوا من ساكني السجون وذرف الرجال الدموع قهراً، وبيعت أعضاؤنا فقراً وجوعاً.
لو كان بيننا عمرو بن الأهتم السعدي لما كان فكر للحظة أن يكتب هذا البيت المشهور:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ** ولكن أخلاق الرجال تضيق
فلقد ضاقت البلاد بأهلها حتى اعتصرتهم ولفظتهم وقتلتهم مراراً وتكراراً؛ قتلتهم بالجوع والفقر والقهر والظلم، كسرت نفوسهم، ضيع الشباب ربيع أعمارهم ومقتبلها في محاولات الخروج منها أو التغرب، والبحث عن لقمة عيش في بلاد أذلتهم هي أيضاً بدورها، هذا الجحيم الذي حكم على "مهند" بالموت مئات المرات، وتركه يواجه الصراع منفرداً مع المرض الذي نهش في جسده، كما تنهش الكلاب فريستها، تهمته الوحيدة كانت أنه طفل في الخامسة عشرة من عمره يحمل كاميرا يلتقط بها صوراً لمشاهد قتل عسكر النظام للمتظاهرين بالإسكندرية.
هذا الجحيم الذي اختطف أكثر من ستين ألف شاب ورجل وفتاة، وغيبهم في مقابر جماعية يسمونها سجوناً وهي أبشع من مجرد سجون، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من كل ألوان التعذيب البدني والنفسي والروحي، فهي كالدرك الأسفل من الجحيم الكبير الذي نعيش فيه، فبأي ذنب يقتل هؤلاء كل يوم في زنازينهم بطرق مختلفة؟ بأي ذنب يسرق شبابهم ومنهم من يفقد طفولته فيها؟!
هذا الجحيم الذي قتل المواطن مجدي مكين وذلك بعد أن أذاقوه كل أنواع التعذيب وهتكوا عرضه ببشاعة ما يؤكد أن هؤلاء ليسوا بشراً، فقد بلغ بهم الأمر حد الجنون كمرضى نفسيين من مثلهم يجب أن يكون خلف أسوار المشافي النفسية بعيداً عن الناس، قتلوه دون أي سبب يذكر كغيره من بسطاء هذا الجحيم.
قتلوا مجدي ليؤكدوا أن لا فرق في الظلم بين مسلم أو مسيحي، فالدين لله والتعذيب للجميع، قتلوا مجدي ليؤكدوا أن حياتنا أرخص من بقايا سيجارة ألقوها تحت أقدامهم بعد أن انتهوا منها.
قتلوا مجدي؛ لأنه بلا سند، ولكن أرى أن ضحايا هذا النظام عن طريق القتل هم أحسنُنا حظاً، فمن من لم يمُت بالتعذيب حتماً سيموت جراء تناول القمح المسرطن الذي سمح النظام بدخوله، أو بالفشل بالمرض بعدما شح الدواء وتوقف استيراده، وأمرت الحكومة المستشفيات باستعمال (السرنجة) أكثر من مرة، طبقاً لنظرية السبوبة التي يتبعها الجنرالات الذين أسند إليهم كل شيء بالأمر المباشر فتربحوا في غذائنا وعلاجنا، وباعوا الأرض التي ذرفت عليها الدماء دفاعاً عنها، وزيفوا التاريخ ليقنعونا أن الأرض ليس لنا، وسمموا عقول أطفالنا بمناهج مغلوطة، وأكاذيب مكشوفة، فتقلد الرويبضة المناصب، وتحدث الأفاقون وعلا صوت الباطل، وغاب العدل، وانجلى عن الظلم غطاؤه، وأصبح البطش عياناً بياناً في وضح النهار لكل من تسول له نفسه أن يقول "لا".
لعمركم لقد ضاقت البلاد بأهلها، فاهربوا منها، ولا تقتلوا أنفسكم بالبقاء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.