طيور العقعق

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/01 الساعة 03:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/01 الساعة 03:41 بتوقيت غرينتش

حدّثني صديق عن فيلم عُرِض في شومان، تحت عنوان "انظروا من عاد!"، قصته تفترض عودة هتلر، يعود لألمانيا بعد 70 سنة من غيابه؛ ليجد ألمانيا بتعددية ثقافية، تحتضن لاجئين وترأسها امرأة؛ ليجد أن هناك ويكيبيديا مثلاً، وأن بولندا ما زالت على الخريطة.

الجميع يرون هتلر شخصية مضحكة، يتبادلون الطرائف حول عودته وسخافة أفكاره، ولكن يهودية مسنة تؤكد: هذا ما فعلناه سابقاً، استهزأنا به ومن ثم مكنّاه.. فأحرقنا وأحرق البلد.

في الفيلم ترى قناة تلفزيونية فرصة دعائية في منح هتلر برنامجاً لتلفزيون الواقع: برنامج دعابي، لكنه من خلال هذه الدعابات بدأ من جديد يصل للجمهور، وفي النهاية نرى أن غيابه لـ70 سنة وتدميره للعالم لم يعنِ أبداً أن جمهوره قد انقرض؛ بل على العكس يقدم الفيلم مقاربات قاسية حول تقارب أفكار الناس الرافضين للاجئين اليوم مع أفكار هتلر العنصرية قبل 70 سنة.
مساء، في نشرة الأخبار، كنت كأني أشاهد الفيلم، ولكن بنسخته الأميركية، "ترامب" رئيساً لأميركا.

إن كان سؤال الفيلم يتمحور حول فرص هتلر في العودة، فقد جاء الجواب أميركياً: لديه فرصة قوية ليكون رئيساً ليس فقط لألمانيا ولكن للعالم أجمع.. شخصية تسلطية، بداهة سخافة الأفكار التي يُنادي بها، الاستهزاء بمقدرته على التسبب بالكارثة، وتكريسه بيننا كبرنامج واقعي للدعابة، وموقفه من النساء، إن الشبه لواضح.

سيكولوجياً يُقال إن الإنكار آلية مريحة في التعامل مع ما يهددنا، ببساطة ندعي أنه غير موجود، لكن الإنكار لا يصلح في خاتمة المطاف؛ لأن الأشياء السوداء موجودة وتنتظر الفرصة لتُنجح شخوصها وتجعلهم أكثر تمكناً من كونهم مجرد دعابة على تلفزيون الواقع.

الديمقراطية معنية بالتعددية وتحتفي بالإنسان، وأساسها يتمثل في "الثقة بأحكام الإنسان العادي"، تيليغيا كتب في "علم النفس السياسي": "لا بدّ من أخذ اللاتسامح مأخذ الجد ودراسته في ذاته باعتباره أمراً يجري إظهاره على نحو نشط، يتم تفسيره والدفاع عنه ضمن أنشطة اجتماعية متنوعة وكجزء منها، ولكي يكون هناك علم نفس سياسي شامل يدرس "اللاتسامح" فلا بد من الاهتمام بعمومية وشمول فكرة اللاتسامح، كما الاهتمام بالثقافة وباللغة والتفاعل الاجتماعي والطرائق العقلية التي يجري بها تفعيل اللاتسامح وإنجازه في الممارسات الاجتماعية"، لا بدّ من أخذه على محمل الجد في كل تفاصيله، ومواجهته بدلاً من التعامل معه كدعابة، لا يكفي القول إن النوازع التسلطية تهدد الديمقراطية وتقوّضها.

نحن نحتاج إلى فهم "التحاملات اليومية" و"الدعابات" و"التفاصيل" التي تتكشف عبر مواقف العامّة ويؤدي تراكمها إلى بناء واقعي للاتسامح.

الناس غير معنيين بما يهدد الديمقراطية، الناس معنيون بحياتهم اليومية، بمخاوفهم من البطالة، وبألا يكون جارهم شاذاً جنسياً.

كما كان هتلر، كما صار "تنظيم الدولة" يقاسمنا البلاد، فاز ترامب: بدأ الأمر على محمل الدعابة، ثم صحونا عليه وهو كل الجدّ.

"باري" في نقده للتعددية الثقافية يتحدّث عن "طيور العقعق الفكرية"، العقعق هو فصيل من الطيور معروف بجمعه للأشياء اللامعة.. طيور العقعق الفكرية هم "الذين يلتقطون الأفكار الجذابة ويدمجونها في نظرياتهم دون أن يشغلوا أنفسهم كثيراً بشأن الكيفية التي يمكن بها أن تتوافق تلك الأفكار بعضها مع بعض"، هؤلاء العقعق جمعوا أفكاراً في خطاباتهم متعلقة بالحرية والتعددية والأخلاقية السياسية دون أن يبذلوا جهداً في التأكد من تحولها إلى واقع حياتي مُعاش يلمسه أبسط الناس.. سياساتهم أشبه بأعشاش العقعق.. مليئة باللوامع غير المنسجمة.. لعلهم (العقعق) كانوا سبباً أساسياً أدى إلى فوز ترامب، شعبويته كانت نتيجة لازدواجية العالم الديمقراطي "العقعق" الذي كالت سياساته هنا وهناك بمكيالين باسم التعددية والحريّة، مكاييل أضاعت السلطة وكرّست من شعبوية الأفكار ومقتضياتها، فاز ترامب لأن كافة رؤساء أميركا من قبله قد تلاعبوا بالديمقراطية، تمكنوا بها ولم يمكنوا لها.

وفقاً لباري، فإن "الثورة الفرنسية لم تكن لتحدث من دون وجود استياء واسع النطاق من نظام الحكم القديم، وكذلك لم تكن الثورة الروسية لتحدث من دون وجود التفسخ الذي اعترى إمبراطورية القيصر بسبب الحرب، وبالمثل، كانت عملية التفكك التي نتجت عن التضخم الاقتصادي الجامح والأعداد الهائلة من العاطلين هي التي مهَّدت الطريق للانتصار الذي حققه النازيون في ألمانيا، غير أنه لم يكن هناك أي شيء حتمي في الطريقة التي انتقلت بها مسببات الثورة إلى أشكال معينة من الحركات السياسية".

من الحتمي أن تدفع هذه المسببات الأمور حتى حافتها، ولكن ليس من الحتمي أن ينتج عن ذلك عهد أكثر تقدماً وتطوراً أو أكثر أخلاقاً وتسامحاً، فكما أن النظام الديمقراطي سيُتيح التعددية الثقافية فقد كان بريان يتنبأ بأنه سيُتيح أيضاً عكس ذلك، كما أن التعددية قد تُبرر الكثير من الممارسات في إطارها، ممارسات وفق ما يصفها قد تكون غاية في السخافة والنفاق.

"كنا نعتقد أن العالم لن يقف مرة أخرى أبداً مكتوف الأيدي بينما الناس يذبحون لمجرد انتمائهم إلى جماعة عرقية معينة"، لكن العالم يا عزيزي بريان لم يقف فقط مكتوفاً، بل انتخب من يدعو لهذا الاتجاه.

"الخطاب السياسي المعالج إعلامياً: باعتباره ممارسة خطابية مركبة تشمل خلط أنواع من السياسات والخطب والمناظرة والترفيه" أدى إلى إنجاح الكثير من التحاملات التي ساعدت في إظهار عنصريات نائمة بين الناس.

ووفقاً لعلم النفس السياسي، نجد أن التأطير وإقرار الأجندات والتجهيز هي الهرم الثلاثي لإنجاح أي خطاب، أولاً عليك أن تؤطر نفسك، وأن تُقر بالأجندة التي تحملها، وتعمل على تجهيز مناخ إعلامي جماهيري مأزوم وستحظى بالكعكة.

لم يعد المهم هو الفكرة في نجاحك، المهم هو اللعبة التي ستمارسها لجمع أكبر شريحة منتخبين، الأمر يحتاج أن تصنع مناخاً مواتياً وتياراً جارفاً.. بطريقة معينة هناك دائماً فرصة للاستقطاب، عليك أن تتنبأ بها، فإما أن تغتنمها أو أن تجهضها، أما أن تقف على حياد ومصداقية أفكارك فتلك هزيمة محققة.

عندما يخطب رجل فتاة من أبيها، بإمكانه مثلاً أن يتقدم وفق متطلبات، لكن ذاك ليس الضامن للقبول الكاسح، القبول الكاسح لا يكون إلا إذا كانت الفتاة ذاتها تريده، حينها فقط حتى ولو كسر كل بديهيات اللعبة ستعمل على وصوله ومنحه الشرعية، فلا أخلاقه ولا أفكاره ولا مهنته ولا نسبه ولا إخلاصه ستشكل تياراً جارفاً كقناعتها هي به.

أن تقنع فتاة باختيارك يشبه أن تدفع بالشعب لأن يمنحك صوته، عليك أن تقدم شيئاً يجعل الحلم أكبر من الواقع.

الحاج متولي في المسلسل المصري الشهير كان لديه أربع زوجات، لقي نجاحاً جماهيرياً لافتاً وتعاطفاً واسعاً، كما حاز نصيبه الوافر من الدعابة والسخرية، في حين أن "أمجد" في مسلسل الغفران على الرغم من نبالته، لن يكسب أي "ناخب" في حال ترشح أمام "الحاج".

الأمر لا يعتمد فقط على ما ندعوه بشعبوية الخطاب، الأمر يعتمد أكثر على حيوية النقاط التي تتمكن منها، فالإخلاص لحب قديم لن يسجل مقياساً حماسياً كما تفعله الغيرة بين زوجتين.

يُقال إن الشعبوية اضطراب ديمقراطي، ويتم تشخيص التعددية الراديكالية كذلك، ويرى مارك ف. بلانتر أنه لا يمكن أن يكون حل مشكلات الديمقراطية ببساطة بالمزيد من الديمقراطية، فلعله سيكون بقوة أخلاقية نابعة من خطاب حيوي.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد