“رغيف الخبز” و”كرامة الإنسان” .. مطلب الشعوب العربية سيعرّض الأمن الوطني للخطر

يقول عالم الاجتماع الكبير علي الوردي، رحمه الله: "لا يوجد هناك اختلافٌ بين القائد العادل والقائد الظالم سوى بالحظ؛ لأن الحظ وحده وقف مع القائد العادل، وتوافقت مصلحته الشخصية مع المصلحة العامة، أما الظالم فسوء حظه كشف غرائزه البشرية الخبيثة التواقة إلى الملذات الدنيوية"، فهل من لبيب يفهمُ "الطبخة"؟!

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/28 الساعة 02:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/28 الساعة 02:07 بتوقيت غرينتش

ربما من أكثر الأمور التي يعاني منها العاملون في مهنة المتاعب هي معضلة "حرية التعبير"، التي دائماً ما تصطدمُ بالكثير من المعوقات الحكومية المصطنعة، لكن الأكثر غرابةً في الموضوع، هو كيف تتعارض حرية التعبير مع القانون! رغم أن غالبية الدساتير العربية تنص على ذلك الحق المنشود.

وبعد الاطلاع على بعض الدساتير العربية، وجدت أن كلَّها تكفل حرية التعبير (على الأقل الدساتير التي اطلعتُ عليها)، وبعض المواد تُشير إلى أن: "حرية التعبير مصونة… ولكن في حدود القانون"، والجزئية الأخيرة أي "حدود القانون" بالإضافة إلى تعبيرات من قبيل "المصلحة العامة" و"الخطوط الحمراء" و"الأمن الوطني"، كلّها تُشكل أحجية بحدِّ ذاتها؛ لأنها غيرُ واضحةٍ، بل الغموض يكتنفها من كلِّ جانبٍ، الأمر الذي يجعل عملية التضييق على الصحفيين والإعلاميين وسجنهم يتم أيضاً وفق "القانون".

ومن المفارقات العجيبة أن الكثير من قوانين المطبوعات والنشر لا تنصُ على حبس الصحفيين والإعلاميين بسبب قضايا النشر، ولكن عادةً ما تتم معاقبتهم وفق قانون العقوبات، ولأسباب تتعلقُ بعملية تعديهم "حدود القانون".

المشكلة ليست في عملية الالتزام بالدستور والمواد المذكورة فيه من عدمها، فهذه المسألة واضحة ومفروغ منها في وطننا العربي، ولكن في التعارض والتناقض الفاضح بين بعض المواد، بالإضافة إلى الغموض الذي يكتنف عبارات بعينها.

فبأي حقٍ يُحبس الصحفيون والإعلاميون من جراءِ قضايا تمسُ المجتمع وتتعلق بهموم الناس ومشكلاتهم؟ أيعقل أن "رغيف الخبز" و"كرامة الإنسان" و"الحقوق التي كفلها الدستور" كلّها مواضيع ستعرض الأمن الوطني للخطر؟! ما هذا الاستخفاف بعقول المواطنين البسطاء؟

إن هذه القرارات التعسفية، وعملية التعدي على القوانين والتلاعب فيها، لم تبقِ الصحافة على حالِها أو كما يجب أن تكون في البلدان المتقدمة كسلطةٍ رابعة – رقابية، بل جعلتها "دميةً" بأيدي السلطات الحكومية، تُطبل لما يُرضي أهواءها، وتُزمرُ إذا تعدى شخص "حدود القانون!".

في البلدان التي تحترمُ مواطنيها وتقدسُ حريتهم وكرامتهم، تتحولُ في بعض الأحيان السلطة الرابعة إلى سلطةٍ أولى في حال تعدى أي أحد على القانون، فتمارس كلّ الصلاحيات التي من المفترض أن تقومَ بها السلطات الثلاث الأخرى، ولكن هذا قلما يحدثُ؛ لأن القوانين رغم مدنيتها (وضعيتها)، فإنهم يعتبرونها قوانين إلهية، لا بد من الالتزام بها لتجنب الفوضى "الخلاقة" وتداعياتها.

في 15 يوليو/تموز الماضي، وبعد يومٍ من هجمات نيس الإرهابية، قدمت مذيعة القناة الرابعة البريطانية، "المحجبة" فاطمة مانجي نشرة الأخبار بمشاركة زميل آخر من استوديو في لندن، الأمر الذي لم يُعجبْ محرر صحيفة "ذا صن" ماكينزي، وتساءل في مقاله الأول: "هل من المناسب لـ(مانجي) الظهور أمام الكاميرا عندما كانت هناك للتو مذبحة أخرى ارتكبها شخص مسلم؟"..

وقد برر ماكينزي رأيه بالقول: "ثمة نقاش قانوني بشأن ما إذا كان من المناسب أن يرتدي الصحفيون رموزاً بارزة تدل على معتقداتهم الدينية على الهواء، لا سيما أثناء تغطية أخبار لها زاوية دينية"، وأضاف: "هل بوسع المسيحي ارتداء الصليب بشكل بارز على شاشة التلفزيون؟".

ولكن ردّ مدير تحرير القناة الرابعة بن دي بير على الخلاف الدائر: "بينما نتفق على أن حرية التعبير حق أصيل، لا نعتقد بأنه يجب استخدامها كإذن للتحريض والتمييز"، وأكد: "لا نرى مبررّاً لمنع مسلمة من تغطية أي قصة، وستستمر فاطمة في تغطية وتقديم الأخبار حول قضايا الساعة بحيادية وعمق".

حقيقةً، إن الموقف الذي اتخذه "بن دي بير"، هو الموقف الذي نفتقده في وطننا العربي، فعندما وصل التصعيد إلى المساس بمبادئ التعايش والتسامح والانفتاح، وجب وضع حدٍّ للقانون، وهذا هو المقصود بـ"حدود القانون"، لا أن يتم استخدامها في تحجيم عمل الصحفيين ومضايقتهم وإقصائهم بسبب قضايا فضفاضة.

بعض البلدان العربية أصدرت قوانين جديدة مخوّلة بملاحقة كلّ من ينشر مواد على مواقع "السوشيال ميديا" يمسّ فيها الأمن الوطني، ويعرض العقد الاجتماعي إلى الخطر، وهي خطوةٌ ليست مفاجئة، بل تأتي ضمن سلسلة المضايقات التي تهدف إلى خنق كلِّ صوتٍ حر، يسعى إلى فضح الفاسدين وسراق المال العام.

وليس مستغرباً أن تطفوَ على السطح مثل هذه المثالب الحكومية، فخطابات المسؤولين لدينا لا تنطبق مع أفعالهم الانتهازية، ودائماً ما تكون أقوالهم في وادٍ وأفعالهم في وادٍ آخر.

والمضحك في هذه القضية أن كلَّ السياسيين يطالبون بـ"الديمقراطية" أو يدّعون في بعض البلدان أنهم ديمقراطيون، ويبدو أنهم لا يعرفون أو "يتغابون" عن الحقيقة القائلة إن الديمقراطية تعني: حكم الشعب، وهم بأفعالهم هذه إزاء حرية التعبير ينسفون الديمقراطية نسفاً؛ لأن الصحافة الحقيقية هي حتماً لا بد أن تكون "صوت الشعب".

يقول عالم الاجتماع الكبير علي الوردي، رحمه الله: "لا يوجد هناك اختلافٌ بين القائد العادل والقائد الظالم سوى بالحظ؛ لأن الحظ وحده وقف مع القائد العادل، وتوافقت مصلحته الشخصية مع المصلحة العامة، أما الظالم فسوء حظه كشف غرائزه البشرية الخبيثة التواقة إلى الملذات الدنيوية"، فهل من لبيب يفهمُ "الطبخة"؟!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد