محمولاً على أكتاف أصدقائه، وسط حشد جنائزي مهيب حضره الشيب والشباب، وُوري جثمان محسن فكري الثرى، بعدما وضعوا حداً لحياته التي لم يرَها عادلة.
كانت ليلة عادية، ليلة الجمعة 28 أكتوبر/تشرين الأول؛ حيث الجمال والهدوء بمدينة الحسيمة (شمال المغرب)، قبل أن يتحول المشهد إلى صدام فغضب فصراخ فموت.
محسن فكري، شاب ثلاثيني يمتهن بيع السمك، اشترى كمية منه من مداخل ميناء المدينة ليعيد بيعها في الأسواق، إلا أنه فوجئ بتوقيفه من قبل عناصر الشرطة؛ لكون نوع السمك الذي في حوزته يمنع صيده، فقرروا مصادرة ما بحوزته ثم إتلافه.
أحضرت شاحنة تدوير النفايات كي تتلف فيها كمية الأسماك، وفي لحظات وجد محسن ما اشتراه يرمى أمام عينيه داخل الشاحنة، لم يتقبل الأمر، فقفز داخلها حتى ينقذ ما يمكن إنقاذه؛ لتتحرك آلة الضغط التي لم تميز بين إنسان وغيره.
هكذا إذن مات محسن طحناً، في نوع جديد من أنواع الموت، وهو موت سببه الإحساس بالإهانة أو ما يصطلح عليه المغاربة "الحكرة "، عندما تنقص من مكانة الإنسان وكرامته، هذه الصفة الربانية التي منحها الله للبشرية جمعاء، حينما قال في القرآن الكريم: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْر وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَات وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (سورة الإسراء: الآية 70).
تسببت وفاة محسن فكري بتلك الطريقة في خروج عشرات الآلاف من المغاربة في مختلف المدن إلى الشارع، رافعين شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، هو مشهد عاد بنا إلى سنة 2011، حين عاش المغرب زخماً اجتماعياً خاصاً به مع حركة "20 فبراير "، حتى عرف المغرب "بلد الاستثناء".
مع المظاهرات الحاشدة التي أعقبت حادثة الوفاة، خصوصاً بالحسيمة التي شهدت الواقعة، والتي عرفت اعتصامات ليلية من قبل الساكنة، تعالت أصوات تحذر من الفتنة والانجرار وراء الاحتجاج، وهو ما خلق تبايناً لدى المغاربة.
في الحقيقة على الواحد منا -نحن المغاربة- أن نحمد الله على نعمة الاستقرار التي نعيش فيها، في الوقت الذي تعيش فيه أقطار عربية أخرى على وقع الفوضى واللادولة والحروب الأهلية، وما تخلفه هذه الوقائع من مآسٍ يروح ضحيتها أولاً وأخيراً الإنسان، وأكيد لا يحس بهذه النعمة إلا مَن فقدها.
لكن في المقابل لا يمكن التنازل عن أن نعيش مواطنين بكامل الحقوق والكرامة، وأن يتعامل رجال السلطة والمسؤولون معنا وفق القانون دون النيل من كرامتنا؛ لأنها أغلى ما نملك، ومن يدعو المحتجين إلى وقف احتجاجاتهم خوفاً من الفتنة، فمن الأفضل أن يدعو المسؤولين لأن يصححوا طريقة تعاملهم مع المواطنين.
طبيعي أن تحاول بعض الأطراف الركوب على قضية محسن فكري لتحقيق أغراضها السياسية، كيف لا وهي التي يكاد لا يسمع صداها إلا حين وقوع مثل هذه الحوادث، لكن الشعب المغربي عنده من الذكاء ما يكفي لأن يضع لهؤلاء حداً إذا تجاوزوه.
إن الزخم الشعبي مطلوب في هذه المرحلة حتى تظهر نتائج التحقيق كاملة، وتأخذ العدالة مجراها في معاقبة كل من ثبت تورطه في قتل فكري طحناً، حتى يكون بذلك عبرة لباقي المسؤولين عن هذا الشعب، كما أنه مطلوب حتى لا يتكرر سيناريو الأحداث السابقة المشابهة، التي ما إن يعلن عن فتح تحقيق في الموضوع، حتى تكون بذلك آخر مرة نسمع فيها عنه.
الكرامة أولاً وأخيراً.. من أجلها خاض أجدادنا معركة التحرير ورفعوا السلاح في وجه المحتل، من أجلها اندلعت احتجاجات قوية عبر فترات متعددة من التاريخ، من أجلها ذاق البعض برد الزنزانة وقساوة السجون، ومن أجلها خرجنا يوم 20 فبراير/شباط 2011 وبعده، عندما كانت المنطقة تغلي فوق صفيح ساخن.
الكرامة.. عليها نحيا وعليها نموت، وبها سنكفن يوم نوارى الثرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.