في أحد أفلام وودي ألن، تظهر أمه بالستيريو تايب المعهود للأم اليهودية النيويوركية التي تتدخل في كل شيء في حياة ابنها الأربعيني، وبطريقة ما، تظهر في السماء لتتدخل بأموره أمام كل الناس في المدينة لتحدثهم عن خطيبته التي لا تراها مناسبة له وعن كونه نحيف جدا ولا يأكل جيدا وأنه كان يبلل فراشه وهو صغير.
هناك بعض التشابه بين هذه الأم، والأم الموصلّية، وكذلك هناك بعض الاختلافات.
الأم الموصلية لن تضطر للظهور في السماء كي تطارد أولادها. في الحقيقة هي ليست مضطرة للمطاردة أصلا، ستجد دوما طريقة ( أقل ضجيجا ) لكي تؤثر عليهم، ربما أضمن هذه الطرق هي أن تسكن في داخلهم، وهكذا تستمر في أداء مهمتها حتى لو..صعدت فعليا إلى السماء. بعد عمر طويل.
لو أنها شاهدت فيلم وودي ألن، لقالت أن الأم هكذا تعرض ابنها للفضيحة والإحراج أمام الناس. هذا سيكون اعتراضها الأساسي وربما الوحيد، ستعترض على طريقة التدخل، وليس على التدخل نفسه. كل مواضع التدخل تراها الأم الموصلية مبررة تماما، وربما ستضيف قائمة أخرى تستحق التدخل غفلت عنه اليهودية الثرثارة.
تفضل الأم الموصلّية أن تكون في دائرة ال ( الظهور المنخفض )، لذا فكل تدخلاتها لا تكون على نحو شديد الحرج لأبنائها، إلا إذا فعلوا ما يستحق مخاطرة كهذه. عندها نكون ( انفضحنا واختزينا ) بكل الأحوال، لذا لا مانع من الانتقال إلى مرحلة ( انكفينا وتوارينا) ( أي وقعنا على الأرض وتم دفننا!).
الأم الموصلّية – والمرأة الموصليّة بشكل عام- ليست القائدة في البيت ولا تحاول أن تكون ذلك. هي المدير التنفيذي ، مدير تنفيذي بصلاحيات موسعة، ولديها في ذلك ما يغنيها ويشغلها عن وجاهة منصب القائد الذي يبقى للرجل. الرجل لا يجد مشكلة في تقاسم الأدوار.أحيانا المدير التنفيذي يديره هو ايضا، كما يدير الأولاد ومصروف البيت. وطالما كانت القرارات تثبت أنها صائبة دوما، فلا مشكلة في ذلك. الأب أيضا يترك للعقوبات الأهم والمشددة. في ظل الغياب، يبقى الأب مثل شماعة مؤجلة للعقاب في حالة عدم طاعة وتنفيذ الأوامر، بطريقة ما سيتكون بالتدريج حلف ضمني غير معلن عنه بين الأم وأبنائها بسبب هذه العقوبات المؤجلة التي لا تصل أبدا للأب.
للمرأة وسائل قوة متعددةـ، تحاول المرأة الموصلية استخدامها جميعا حسب الأحوال والظروف المحيطة لكن أفضلها بالنسبة طريقة الحكمة والحزم، أمر يجعلها تكون مثل ( حزام ظهر) للرجل، أفضل ثناء تحصل عليه المرأة في العراق.
قوية، ممكن أن تكون متسلطة مع أولادها. قلقة أكثر مما يجب. تحميهم أكثر مما يجب. تعاملهم كأطفال وهم في العقد الخامس. لم تأكل جيدا. كل المزيد. تبدو شاحبا. مغتك ما عتطبخلك؟ البس أكثر، كن بغدت الدني ( لقد بردت الدنيا). من هو صديقك هذا. ما كن غشعتونو قبل ( لم أره من قبل) من بيت من؟. وأمه؟ من أنسباءه؟ من هون من الموصل ولا من بغّا ( برا )؟ هل تتناول إفطارك قبل ما تطلع عالشغل؟ منو عيعملك هو؟ أنت ولا مغتك؟ أولادك أكلوا أيضا؟ أشّونم بالمدارس؟ ( كيف هم بالمدارس).
الأمور قد تصل إلى حد ( تغطى مليح لما تنام) إلى (سيم بالك لما تعبر الشارع)( انتبه عند عبور الشارع)..
والبحث عن إجابات لهذه الأسئلة وسواها قد يصل في أحيان كثيرة إلى التفتيش في حاجيات أولادها. كله بالضمير والشرع. حرية شخصية؟ اشنو يعني حريي شخصيي؟ يعني أنا ما طيق أغشع ولادي أش عم يعملون؟!
برج المراقبة أحيانا. والمحقق الجنائي في أحيان أخرى. نهاية عصر الهواتف الأرضية كان بالنسبة لها نكسة كبيرة. إذ كانت هذه الهواتف تتيح لها أن تتصنت على مكالمات أولادها بجهد قليل ودون الحاجة إلى تقنيات كثيرة. ينطبق عليها وصف ( الأم الهيلكوبتر) كثيرا، إذ أنها كثيرا ما تحلق على ارتفاع منخفض حول أولادها وبالقرب منهم، من باب الاستطلاع أولا، وللتدخل عند الحاجة. ليست فضولية كما قد يبدو، هذا ليس فضولا بالتأكيد. هذه حماية لأولادها فحسب. أمر من صميم عملها كمديرة لبيتها.
تدبيرها لاقتصاديات المنزل أيضا من صميم إدارتها. الاقتصاد عصب الحياة كما تعرفون، وهي تمسك هذا العصب بعد أن يأتي به الرجل. الرجل يجلب المال. لكنها هي من تديره. تعطيه مصروفه ايضا أحيانا كما تعطي الأولاد. عيب؟ لا ما عيب. من حق الرجل أن يأخذ جزءا من تعبه. ما فيها شي.
قابلياتها الحسابية ايضا تكاد تكون فطرية، وظيفتها الأثيرة عندما تعمل خارج المنزل هي أن تكون مديرة ايضا. مديرة مدرسة خصوصا. لكنها كثيرا ما ستتحول إلى محاسبة لشؤون المدرسة. التدقيق يجري في دمها. قد تحتفظ بإيصالات مختلفة لشركات لم يعد لها وجود منذ عقود. نظيفة ومرتبة لكن تصاب بنوبة من تأنيب الضمير أن ألقت بغرض من أغراض البيت مما لم يعد ينفع. ضميرها حي جدا من هذه الناحية. يقول لها أن هذا الغرض قد يأتي حين من الدهر عليه وينفع. تستمع في الغالب لضميرها، وليس لأصوات من معها في البيت وهم يتذمرون من تراكم الأشياء حولهم.
خوفها على أبنائها يصل إلى حد نقع الفواكه والخضراوات بمحلول القاصر( الكلوروكس) على نحو يقتل كل الجراثيم والبكتيريا ولكن أيضا يقتل كل طعم ونكهة. لكن لا بأس. الصحة أهم من الطعم.
التربية والنصائح والإرشادات موكلة إليها. ومن خلالها تتمكن الأم الموصلّية من السكن في الشعور بالذنب الذي يعوضها عن محاولة الصعود إلى السماء كما مع والدة وودي ألن التي فضحته دون داعي حقيقي.
إشعار أولادها بالذنب هواية محببة للأم الموصلّية، وهي جزء مهم من دافع التفوق والنجاح والاستقامة فيهم دون أن يدركوا ذلك تماما. قد يخطوؤن كما الجميع. ولكنها ستكون هناك لتنغص عليهم متعة الخطأ. ماذا كنتم تظنون إذن؟
الأطفال المنفلتون في الشوراع كانوا يسمون في الموصل ( عجايا )، وأصل الكلمة في العربية ( يتيم الأم)..بعبارة أخرى..أولئك العجايا في الشارع ينظر لهم على أنهم أيتام أم..لو كانت أمهاتهم على قيد الحياة لما كانوا في الشوارع!!
هذه القوة الحازمة التي تملكها المرأة الموصلّية لم تأت من فراغ بالتأكيد.
هناك بالتأكيد الظرف الموصلّي العام الذي فرض الجدية والانضباط على الجميع، رجالا ونساء، وهو ظرف تخصيص الموصل تحديدا بتطبيق قانون الإقطاع العسكري، والذي جعل المجتمع كله ( يتعسكر) وبالتالي يدخل في جو من الانضباط العام، بالإضافة إلى أن انخراط الرجال الموصليين في الجيش العثماني ( أكثر من سواهم من بقية المدن في العراق) فرض على المرأة أن تسد مكان الرجل في غيابه وهذا فرض أيضا المزيد من القوة والجدية.
وكانت فترة ( ترقب الحصار، الاستعداد للحصار ومن ثم الحصار نفسه) في القرن الثامن عشر مؤثرة على تكوين المجتمع الموصلّي ككل، وعلى المرأة بصفتها من يتحمل تدبير أمور المنزل والطعام خصوصا.
وهذا بالـتأكيد يفسر الكثير من جوانب المرأة الموصلّية.
لكني أعتقد أن هناك ما هو أكثر من هذا في تفسير قوة المرأة الموصلّية .
أعتقد أن هناك ما يمكن أن أسميه ( العامل الحلبي) ! أو بعبارة أخرى : التنافس مع المرأة الحلبية !
كانت للموصل علاقات تجارية قوية مع حلب، عدا العلاقات التاريخية التي جعلت الموصل جزءا من الدولة الحمدانية التي كانت حلب عاصمتها…وكانت هذه العلاقات التجارية المستمرة تتيح للرجال الموصلّيين الذين يذهبون إلى حلب للتجارة أن يختاروا زوجات حلبيات.
وكان دخول المرأة الحلبية كمنافسة يشكل تحديا كبيرا للمرأة الموصلّية.
مبدئيا المرأة الموصلّية بيضاء البشرة، وهذا يعد واحد من صفات الجمال الأكثر أهمية في الموصل، يقول المثل ( قولي بيضا واسكتي، وقولي سمغا وامدحي) أي عندما تريدين أن تروجي لخطبة فتاة، فالبيضاء لا تحتاج إلى مدح، قولي بيضا واسكتي، أما السمراء فعليك أن تزيدي من الصفات: مرتبة ونظيفة وست بيت…الخ.
البياض صفة منتشرة في نساء الموصل، لكن المشكلة أن نموذج الجمال الأعلى في الموصل لا يقتصر على البياض فحسب، بل هو يذهب إلى ( بيضا حمغا عيونا زغف مطبطبي) ( أي بيضاء حمراء البياض عيونها زرقاء وممتلئة الجسم).
وهذه الصفات أكثر انتشارا كما هو معلوم في المرأة الحلبية.
هنا إذن المرأة الموصلّية كانت أمام منافسة وتحدٍ خطير. علما أن المرأة الحلبية لها من قوة الشخصية أيضا ما يزيد من حدة المنافسة وشراستها..فهي ليست ( باربي مطبطبي وغبية) على الإطلاق ، بل لها من الصفات الأخرى في إدارة البيت وفي فنون الطبخ وفي التعامل مع الرجل ما جعل المرأة الموصلّية تضطر- في تحليلي الشخصي- إلى المواجهة بزيادة جهودها في نواحي تعلم أنها يمكن أن تكسبها. كانت للحلبية نقاطا تجعلها في وضع أفضل في الأمور النسوية بما لا يمكن منافسته لأنه ببساطة ( رباني)…لكن أمور الحزم والجدية والانضباط كلها ( مكتسبة) ويمكن في الصراع من أجل البقاء أن يتحول إلى طبيعة اجتماعية متوارثة .
هذا كله جعل المرأة الموصلّية تتوارث الجدية والقوة ومهارات الإدارة على نحو جعل المثل الموصلّي يقول ( بّيت بنتك بغا البيت لا تبيّت ابنك بغّا البيت)…ببساطة لأن البنت أحرص على نفسها من الرجل…ولأن قوتها تجعلها موضع ثقة.
قد تكون الصفات السابقة هي صفات مشتركة في الكثير من النساء الشرقيات، أعتقد أنها مركزة قليلا أكثر عند المرأة الموصلية..وكذلك تأثير المرأة الموصلّية في أولادها عادة أكثر قليلا من المعتاد.
المرأة الموصلّية مغبونة..لم تجد من يقدمها ( حسب علمي) أدبيا على نحو يليق بها وبقدرتها على صنع الناجحين…لكن…الرجل الموصلّي ايضا مغبون في هذا…
ولعل هذا سيفسر لاحقا، وسيكون تفسيره مرتبطا أيضا بالمرأة الموصلّية…
يتبع
هذا المقال منشور على موقع الدكتور أحمد خيري العمري.. للإطلاع على النسخة الأصلية اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.