روشتة الإصلاح الاقتصادي في مصر

الحديث عن إصلاح اقتصادي لن يُكتب له نجاح، ولن تقوم له قائمة ما لم تصحبه حزمة من الإصلاحات الاجتماعية، تبدأ بمحاربة الفساد المتأصل ببنية الدولة نفسها، ووضع معايير موضوعية لاختيار القيادات بعيداً عن معيار "أهل الثقة"، وبعد أن تقضي على الاحتكارات والممارسات الاحتكارية، وبعد أن تُقارب بين مستويات الدخول، وبعد أن تضع سياسة للتقشف، وتبدأ بنفسها أولاً.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/18 الساعة 02:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/18 الساعة 02:23 بتوقيت غرينتش

خرج علينا السيد رئيس الوزراء في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، قبيل صلاة الجمعة، وبصحبته نفر من الوزراء لشرح ملابسات قرارات الخميس الأسود 3-11-2016، من تعويم سعر الجنيه المصري ورفع أسعار المحروقات.

كانت الابتسامة تعلو وجهه الكريم، وهو يعلن لنا أهمية تلك القرارات المرّة التي كان لا بد من اتخاذها، رأفة بالشعب وبخاصة فقراؤه، ثم علت وجهه سحابة من الكدر، مؤكداً أنه يشعر بآلام الفقراء، ويُحس بهمومهم، وأن ما حدث لصالح هؤلاء.

الحق أن الحديث كان مما يُقال عنه "كلمة حق يُراد بها باطل"، فالقرارات قد تكون في مضمونها الاقتصادي صحيحة، لكنها من زاوية البعد الاجتماعي ستعصف ببقايا الطبقة الوسطى، وستزيد بؤس الفقراء على بؤسهم المقيم، فخفض قيمة الجنيه قرابة 48% مرة واحدة، وبالتزامن مع رفع أسعار المحروقات بنفس النسبة تقريباً، ومن قبلها بأربع وعشرين ساعة رفع سعر السكر بقيمة 40%، ومع ثبات الدخول المادية للغالبية العظمى من الناس، يصبح الحديث عن استقرار ورفاهية متوقعة سوف يحلّان على رؤوس الناس قريباً، محض لغو وهزر.

الأكيد أننا "في مصر" نعاني من مشكلة اقتصادية، تتمثل في عجز مزمن بالموازنة العامة للدولة، وعجز أشد في ميزان المدفوعات، وكلاهما يعكس عمق الأزمة أن إيراداتنا على ندرة مصادرها قليلة جداً، وكلها خدمية عُرضة لأي ريح كي تعصف بها، سواء أكانت سياحة أو قناة السويس، صادراتنا الصناعية والزراعية ضئيلة، ولا تتفق مع معايير الجودة العالمية التي نعيها جيداً، ثم نغض الطرف لصالح المصدّرين، فكانت النتيجة عزوف بلدان العالم "غالبيتها" عن شراء المنتجات المصرية، فأمن وصحة المواطن هناك يعلو على أية اعتبارات سياسية أو اقتصادية.

يتزامن هذا مع أربعة أمور أجهضت كافة برامج التنمية بمصر طوال عقود ستة وتزيد:
1- أن مصر قبل يوليو/تموز 1952، كان بها ركيزة صناعية ونمو زراعي محسوس، وكانت أزماتها نادرة للغاية في مجال الغذاء والتصدير، ترك لنا النظام الملكي وضعاً متميزاً للعملة المحلية واحتياطياً ذهبياً كبيراً؛ لذا فالمغامرات السياسية والعسكرية بعد يوليو 1952 قد أهدرت القائم بصورة مريعة.

2- الحروب التي خاضتها مصر، وبخاصة فيما بعد يوليو 1952، استنزفت قدراً كبيراً من احتياطيات مصر، وأوقفت كافة برامج التنمية، وخُصّصت موارد الدولة بالكامل للمجهود الحربي "اقتصاد حرب"، لدرجة أن خرجت مصر عقب أكتوبر/تشرين الأول 1973 شبه محطّمة، وجرى عليها ما يجري على الأمم، فالفائز غالباً عسكرياً يخرج محطماً اقتصادياً، والمستفيد طرف ثانٍ أو ثالث لا علاقة له بالحرب، وهو ما حدث مع مصر ولها.

3- كافة سياسات وقرارات التنمية عقب أكتوبر 1973 كانت تميل للمسكّنات وترحيل المشكلة، جيلاً وراء جيل، منعاً للصدام مع الناس، تزامن هذا مع توظيف النخبة السياسية لقرارات وسياسات الدولة لمصالحها، فظهرت سياسة الانفتاح الاقتصادي وأسيء استغلالها لصالح فئة محددة أثرت على حساب المجموع، وهي الطبقة التي تحكمت وتسيّدت في عهد "مبارك"، وكانت تعيق أي نمو اقتصادي حقيقي، ولا تزال، وأبناؤها هم المتحكّمون في مفاصل الدولة فعلاً.

4- الطامة الكبرى أن سيادة الطبقة الطفيلية لم يكن لتستمر دون فساد إداري ومالي على نطاق واسع شمل بر مصر بكامله، وتزامن مع هلامية معايير اختيار القيادات على مستوى الدولة بكاملها، بدءاً من القاع، وصعوداً لمستوى الوزراء ورئاسة الوزراء، فالجهل والغباء والتردد سمات وشروط أصلية لتولي المنصب العام؛ لذا لا غرابة أن ينتشر توريث الوظائف العامة بين هؤلاء انتشار النار في الهشيم، وأن تهوي الدولة على أيديهم إلى القاع.

الغريب أو المخزي أو المخجل "فلا فرق في توظيف أي مصطلح هنا"، أن هؤلاء وعلى أيديهم الآن يتم تطبيق برنامج للإصلاح الاقتصادي، تلك الطبقة التي خلقت الأزمة هي المنوط بها إصلاح الوضع، فأي سخف هذا؟ ويبلغ الكدر بين الناس مبلغه حين يعلمون أن هؤلاء يتحدثون باسمهم، ويدّعون أنهم يتألمون لآلامهم.

يتحدث المسؤولون كما لو كان الناس لا يريدون خيراً للبلد، أو كما لو كانوا عبئاً عليهم يمنعهم من تحقيق النمو والانطلاق الاقتصادي، متناسين عن جهل وعمد أن الدولة كلما واجهت عارضاً لجأت لهؤلاء تستغيث بهم، وتستنزف ما لديهم من ثروات على ندرتها مستعطفة وطنيتهم الجارفة، حتى صدقت مقولة أن الوطن للأغنياء والوطنية للفقراء فعلاً وقولاً.

الحديث عن إصلاح اقتصادي لن يُكتب له نجاح، ولن تقوم له قائمة ما لم تصحبه حزمة من الإصلاحات الاجتماعية، تبدأ بمحاربة الفساد المتأصل ببنية الدولة نفسها، ووضع معايير موضوعية لاختيار القيادات بعيداً عن معيار "أهل الثقة"، وبعد أن تقضي على الاحتكارات والممارسات الاحتكارية، وبعد أن تُقارب بين مستويات الدخول، وبعد أن تضع سياسة للتقشف، وتبدأ بنفسها أولاً.

عودة الدولة القوية ليست معناها استعراض قوتها على المواطن الضعيف بمرافق الخدمات الحكومية والأمنية، بل بقدرتها على إرساء أسس العدالة الاجتماعية كما ينبغي، الدولة القوية هي التي تعي أن قوتها وبقاءها رهن بقوة وكرامة المواطن الفرد.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد