عند التأمل في سقوط الموصل بعمق تجده امتداداً طبيعياً لسقوط بغداد 2003 وما تبعه من أحداث على المستوى الداخلي العراقي وعلى مستوى المنطقة، فكما اعتبرنا تأثير "سقوط بغداد" على الأفكار والأيديولوجيات عامة وعلى الفكر الإسلامي خاصة، كتأثير سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح على الفكر الأوروبي السائد في تلك الفترة، ودخوله في مرحلة التجديد، إذ انتقل بعد مدة إلى عصر النهضة الصناعية الحديثة.
هنا يأتي سقوط الموصل متأثراً بدرجة كبيرة بما حدث في العراق بعد 2003 وسيطرة "الأحزاب الإسلامية الشيعية" على القرار والحكم في العراق، وكما بيَّنا في مقال سابق كيف وقعت هذه الأحزاب في مشكلة كبيرة بين "النظرية والتطبيق"، وأثبت الواقع أن "الفكر الإسلامي الشيعي" غير قادر على إدارة دولة "الأزمة" في بنيته وولاءاته.
فالتطرف الكبير الذي تبنته الأطراف "الشيعية" واستئثارها بالحكم وإقصاؤها للشركاء في الوطن والدين وعدم الاعتراف بأن الاحتلال الأميركي هو احتلال من قِبل المرجعية دفع "السنة" إلى تبنّي مقاومة الاحتلال منذ اللحظة الأولى للاحتلال والسعي لتخليص العراق مما وقع فيه، ولكن ثمة أزمتين في هذا الموقف:
الأولى: أن نصف الشعب العراقي -الشيعة والأكراد- لم يعتبروا هذا احتلالاً، كما بيَّنا في الجزء الأول من الموضوع.
الثاني: الفكر الإسلامي السني كان رهين أدبيات معينة ويثقف على (الجهاد/ القتال) منذ أكثر من خمسة عقود، واستثمر القضية الكبرى (قضية فلسطين) ليتحرك من خلالها نحو هذا التثقيف، ولم يراعِ في تثقيفه متغيرات الزمان والمكان، ولم يمتلك نظرة مستقبلية لما سيحدث للعراق أو المنطقة (إلا رسالة صغيرة للأستاذ الراشد) قبل الاحتلال ولكن لم ينبنِ عليها أي عمل.
هاتان الأزمتان التي وقع فيهما (الفكر الإسلامي السني) أدتا به إلى اختلاف ردود الفعل تجاه التعامل مع الواقع الذي فرض عليه، فانقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- مجموعة تبنت العمل المسلح لمقاومة الاحتلال، وهي في الغالب من فئة الشباب، وظهر عدد من التيارات (السلفية الجهادية – الإخوان المسلمون – النقشبندية "تابعة لحزب البعث"، ثم بعد فترة دخل تنظيم القاعدة، الذي تطور إلى تنظيم داعش في مرحلة متأخرة).
2- مجموعة تبنت العمل السياسي لاستدراك الوضع كي لا يصنع القرار بعيداً عن الوجود السني في الحكم، وهم: الحزب الإسلامي – بعض السلفية والصوفية – بعض الوطنيين.
3- مجموعة أخرى رأت أنها فتنة ويجب اعتزالها وهم فئة قليلة قياساً بالفئتين السابقتين.
هذا التقسيم كان منسجماً إلى حد ما في بداية الاحتلال فقد تجد سياسياً في الصباح وهو يقاوم في الليل، ولكن دخول تنظيم القاعدة على الساحة الجهادية أدى إلى "فصام" بين السياسي والعسكري، بل أدى إلى اغتيالات من قِبل العسكري للسياسي، وتطور الأمر إلى أن فقد الجهاد المسلح "حاضنته الشعبية"، نتيجة لتصرفات "القاعدة"، ومن تبعها في عمليات انتحارية داخل الأسواق والمدن السنية، ودعوات لتكفير الشيعة واستهداف مدنهم وتجمعاتهم (طبعاً الأمر لا يخلو من دخول المخابرات لعدة دول على الخط المسلح بقوة، وخصوصاً إيران)، فتحولت الساحة السنية إلى ساحة قتال متشعب قتال مع المحتل ومع الجيش ومع الأطراف السياسية ومع بعضهم نتيجة لإعلان ما يسمى (الدولة الإسلامية في بلاد الشام والعراق) بحدود 2007، هذا من جهة.
من جهة أخرى ازدياد سلطة الأحزاب الشيعية وإقصاؤها وظلمها لأهل السنة جعل كثيراً من الشباب ينحاز تجاه العمل المسلح، وخصوصاً عندما استخدمت السلطة "الشيعية" لقانون (4 إرهاب) لقمع السنة ومصادرة حقوقهم، ولا ننسَ دور السجون الأميركية كحاضنة في ظل ذلك.
على العموم كل ذلك أربك الفكر الإسلامي السني، ولم يستطِع مواكبة الأحداث، فوقع في أزمة حقيقة بين ما كان يطالب به الشباب ويربيهم عليه، وبين تطبيقاته على أرض الواقع، ثم بدأت الأصوات تعلو بأنه يجب العودة إلى تطبيق الشريعة، سواء أكان ذلك من قبل "السُّنة" أو "الشيعة"، فأما الشيعة فهم في السلطة، وتكلمنا عن فشلهم في المقال السابق، وأما السنة فظهرت دعوات تجلت في إعلان "دولة العراق والشام الإسلامية"، واستثمرت "المظاهرات السلمية" التي خرجت من قِبل المجتمع السني للمطالبة بالحقوق، وعدم استجابة حكومة "المالكي وحزب الدعوة"، لهذا المطالبات بل استخدمت القوة المفرطة في فضها.
استثمر تنظيم الدولة هذا الفراغ؛ كي يسيطر على أربعة محافظات بشكل كامل، وبعض أطراف من محافظات أخرى ثم إعلانه "الخلافة" التي طالما روجت لها أدبيات الحركات الإسلامية الكبرى، وخصوصاً "الإخوان وحزب التحرير الإسلامي والسلفية الجهادية".
هذا الإعلان أربك العالم الإسلامي جميعاً وليس "سنة العراق فقط"، فلم نرَ أي موقف واضح من قبل علماء السنة -بمستوى الحدث- تجاه هذا الإعلان، بل هناك مواقف مربكة للشارع السني العراقي عندما يخرج مفتي الديار العراقية والمتكلم باسم ساحات الاعتصام، ويشيران إلى أن "الموصل تحررت!"، الأمر الذي صدم الشارع السني في الموصل، خصوصاً لما وجدوه من عذاب على يد هذا التنظيم، ولأن نخبهم "الفكرية السنية" تعرف خطورته، بل هو الذي كان وراء اغتيال الكفاءات الموصلية والسنية عموماً.
وهذا الأمر إن دل على شيء فيدل على عمق الأزمة التي يعاني منها "الفكر الإسلامي السني"، وبُعده عن الواقع والعقلانية وانجراره وراء العواطف وعدم نضجه السياسي؛ حيث سمعنا لنفس الفرحين بتحرير (سقوط) الموصل من قبل داعش، يعود ليصف داعش فيما بعد بأنها إرهابية، وأن الموصل لم تتحرر، بل سقطت بيد هذا التنظيم، هذا على المستوى المحلي، أما الدولي فلم نسمع أي تصريح يدين "داعش" ويرد على أدبياتها والأسس التي قامت عليها، والسبب في اعتقادنا أن الأمر يعود إلى أن أدبيات داعش لا تختلف كثيراً عن "أدبيات" بعض الحركات الإسلامية، وأن ما يقدسه داعش "الخلافة – الحاكمية" هو نفسه مقدس عند "الفكر الإسلامي السني التقليدي"، وهذا ما سنتطرق إليه في المقال القادم، بإذن الله تعالى.
"يتبع"
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.