عرف الموصليون ببروزهم في ثلاث مهن، كل مهنة منها تعكس جزءاً من تطور العقل الجمعي الموصلي في تفاعله مع الظروف المحيطة به، هذه المهن هي: الضابط، والمحامي، والطبيب.
ولعل أهمها تاريخياً كانت الأولى، فقد عرف عن الموصل كثرة ضباطها وقادتها العسكريين، خاصة في الرعيل الأول المؤسس للجيش العراقي، ومن ثم عرفوا أيضاً بنوعيتهم العالية ضمن هذه الكثرة.. نتحدث هنا طبعاً عن الجيش العراقي الذي تأسس عام 1921م مستفيداً أصلاً من وجود الضباط العرب في الجيش العثماني.
من بين كل رؤساء أركان الجيش العراقي للفترة بين 1921 و2003 -عندما حل الجيش العراقي على يد بول بريمر- كان هناك ثمانية رؤساء أركان للجيش من مدينة الموصل، مقابل أحد عشر من بقية أنحاء العراق (بغداد، تكريت، السماوة، ريف الموصل)!
هذا بينما تعداد سكان الموصل لا يمكن أن يكون قريباً من هذه النسبة!.. ما الذي يعنيه هذا، في الوقت الذي لم يحكم فيه أي من أبناء الموصل العراق؟
فلننتبه هنا إلى أن منصب رئاسة الأركان في العادة مرتبط بصفات ومميزات مهنية أكثر منها سياسية، عملياً هو أقل منصباً من وزير الدفاع، المنصب الذي فيه جوانب سياسية وارتباط أكبر بمؤسسة الحكم، أما رئاسة الأركان فهو منصب تنفيذي يعتمد على الكفاءة والتخطيط والدقة في قراءة الواقع الميداني اللوجيستي بمعزل عن القرار السياسي الذي أوصل إلى ميدان المواجهة.
ما الذي جعل الموصليين يتميزون في هذا المجال العسكري؟
للوهلة الأولى سيقال إن طباع أهل الموصل من الانضباط والجدية والدقة أسهمت في ذلك، لكن ربما كان الأمر هو العكس بالضبط، ربما كانت هذه الطباع قد تولدت في أهل الموصل؛ لأنهم في مرحلة مبكرة ما قد تعسكروا؟
برأيي، هذا ما حدث، لا يملك الموصليون جيناً للانضباط والكفاءة العسكرية، لكن الدولة العثمانية، ومنذ فترة مبكرة في القرن السادس عشر، طبقت قانون الإقطاع العسكري على الموصل فقط من دون بقية مناطق العراق.
كانت سياسة الدولة العثمانية في العموم تعتمد على الإبقاء على وضع الأراضي كما هو عليه -في يد شيوخ العشائر أو الزعماء مثلاً- مع العمل على الاستفادة القصوى من الأمر عبر فرض الضرائب على هذه الأراضي، عدا ذلك كانت الدولة العثمانية تطبق قانون الإقطاع العسكري -وهو القانون الأساسي المعمول به- كلما رأت أن الظروف مناسبة لذلك.
وكانت الظروف الجغرافية – المناخية مناسبة في الموصل لذلك من دون كل مناطق العراق الأخرى التي وقعت تحت سيطرة العثمانيين، تحديداً كان هذا في أمرين: الأول وفرة مياه الأمطار؛ حيث تعتمد الزراعة على المطر، وليس على السقي من الأنهار.
الثاني كان قرب الأراضي الزراعية من المدينة، أي وقوعها تحت سيطرة الحكم المحلي، وبالتالي سهولة استحصال مبالغ الضرائب أو إحباط أي تمرد للفلاحين.
والأمران لم يتوفرا في بقية أنحاء العراق.. صحيح أن أغلب مناطق العراق الزراعية تعتمد على الأنهار، وبالتالي توفر المياه مضموناً أكثر، لكن الزراعة التي تعتمد على النهر تكون بحاجة إلى نظام إروائي متكامل (سدود، قنوات ري.. إلخ)، والتي بدورها تحتاج إلى حماية وصيانة، وكل هذا لم يكن يتوفر بسبب ظروف ضعف أنظمة الحكم المتعاقبة بعد سقوط العباسيين، كما أن المناطق التي يمكن أن تتوفر فيها مياه أمطار تكون بعيدة عن مناطق الحكم المحلي، وبالتالي يصعب السيطرة عليها.
وهكذا كانت الموصل هي الوحيدة المناسبة لتطبيق قانون الإقطاع العسكري.. ومن يومها والموصل دخلت في "الجو العسكري".
الإقطاع العثماني العسكري كان يتضمن توزيع الأراضي على العاملين في الجيش، وكان يشكل ثلاثة أنواع بحسب "ناتج الأرض أو ما يعادلها بأصغر عملة عثمانية آنذاك أقجة" الأنواع كانت تسمى تصاعدياً (تيمار – وهي الأصفر وتمنح لصغار الجند والفرسان، زعامة والتي تمنح للرتب العسكرية الأعلى وربما لبعض شيوخ وزعماء القبائل في المنطقة، وأخيراً خاص وهي التي تمنح من قِبل السلطان مباشرة وقد تكون لزعماء أو شخصيات مهمة في الجيش وعادة تكون بمساحات أكبر ولا تخضع لمراقبة مباشرة من الدفتردار كما النوعين الآخرين).
كان النظام الإقطاعي العسكري يزيل جزءاً من نفقات الجيش عن الدولة، وبدلاً من أن تمنح الدولة جنودها المرتبات، يصبح عليهم هم أن يمنحوا جزءاً من خراج أراضيهم للدولة.
عوّدتنا المناهج الدراسية أن نسب ونشتم الإقطاع بيقين، لكن هذا لا ينفي أن الإقطاع وقت نشوئه وازدهاره كان يمثل حلقة مهمة من حلقات التطور الاجتماعي والاقتصادي، لقد أدى الإقطاع العثماني- في المناطق التي تم فيها تطبيقه على النحو العسكري- إلى تهميش دور شيخ العشيرة لصالح مالك الأرض الذي يمكن أن يتغير باستمرار نتيجة سحب الأرض منه ومنحها لآخر، وأضعف هذه الروابط العشائرية لصالح روابط حديثة مرتبطة بالعمل والإنتاج.
الدولة العثمانية لم تقطع فقط جنودها، بل أقطعت أيضاً أفراداً من أهل الموصل ومن وجهائها الأراضي بحسب نفس القانون، ولم يكن ذلك بلا مقابل، بل كان مقابل انضمامهم إلى الجيش العثماني، وهكذا خلال عقود فقط من دخول العثمانيين الموصل، توجد إشارات إلى مشاركة الموصليين في الحملات العسكرية ضد الصفويين لفتح بغداد، ومن ثم البصرة. ومن ثم انخرط الموصليون في الجيش العثماني وحاربوا معه أينما تطلب الأمر في البلقان أو بولندا أو أي مكان آخر، (كذلك فعل كل من انتمى إلى الجيش العثماني سواء من بغداد أو حلب أو دمشق.. إلخ).
هذا ما حدث: الضباط العثمانيون الذين أعطوا أراضي في الموصل يسكنون بالقرب من أراضيهم في الموصل، يشكلون نموذجاً (للعثماني الفاتح الغالب) الذي لا بد أن يقلده (المغلوب على أمره) الذي كان أصلاً تحت سيطرة الصفوي ونموذجه السيئ.
النموذج العثماني يغلب عليه الجدية والانضباط، إنه عسكري عثماني بكل ما تعنيه الكلمة، في الوقت نفسه، الدولة العثمانية تمنح أراضي لبعض أهل الموصل، وعملياً تحثهم على الانتماء للجيش، وفوق كل هذا، الأراضي هذه لا تمنح للأبد، بل يرتبط الأمر بالعمل في الجيش، وهذا يترك الباب مفتوحاً للمزيد من الانضمام في الجيش.
وهكذا أسهم الإقطاع العسكري في عسكرة العقل الجمعي للموصل، كانوا ينضمون للجيش العثماني، الذي كان منضبطاً جداً آنذاك، فكانوا يتشربون قيم الانضباط والجدية ويأخذونها معهم إلى الموصل، وتنتقل بدورها إلى عوائلهم الذين يعد الذكور منهم أصلاً للدخول في الجيش العثماني.. وهكذا.
الإقطاع العسكري (الذي نذّكر أنه لم يطبق إلا في الموصل، وطبقت أنواع أخرى من الإقطاعات في بقية أنواع العراق، أكثرها تكرس الوضع القائم من سيطرة شيخ العشيرة أو المالك)، هذا الإقطاع العسكري ساهم في "شد" أجزاء المجتمع الموصلي المهلهل بسبب ظروف الاضطراب السابقة ووضعه في نظام طبقي لا يخلو من مشكلات، ولكنه "نظام" في نهاية الأمر، وهو النظام الأمثل وقتها.
أفرز النظام الإقطاعي ظهور مجموعة أسر أرستقراطية عليا، خمس أو ست أسر بقيت لقرون تتناكف فيما بينها عمن هي الأسرة الأهم من بينها، رغم أن الأمر محسوم تاريخياً لصالح أسرة واحدة، كما سيأتي في مقال آخر، أسهمت هذه الأسر العليا من خلال التنافس فيما بينها في تطوير المدينة من جوانب ثقافية واقتصادية، ومن ثم أسهمت لاحقاً في ظهور الطبقة الوسطى إلى جانب عوامل أخرى سيأتي ذكرها لاحقاً أيضاً.
لكن هذا لم يكن يخلو من جوانب سلبية بقي لها آثار حتى اليوم، فقد علقت في العقل الجمعي الموصلي طبقية كريهة "داخل المجتمع الموصلي نفسه"، وكذلك أسهم الأمر في زرع التوتر والعداء بين أهل المدينة والريف، وهو أمر أزعم أنه لا يزال قائماً بل زاد كثيراً مع الوقت.
بالنسبة للطبقية داخل المدينة فأعتقد أن ظهور الطبقة الوسطى لاحقاً خفف منها، وكذلك تصاعد التوتر مع الريف جعل كل طبقات المدينة تشعر أن الخطر يقع في خارج المدينة وليس داخلها، لكن لا يخلو الأمر من ظهور للطبقية بين وقت وآخر، خصوصاً عند مسألة التزاوج؛ حيث تفضل الأسر المتنافسة سابقاً على أن يكون التزاوج من بينها؛ لأنها تعتبر العائلة الأخرى نداً مكافئاً لها رغم تاريخ المنافسة، بينما من السهل جداً أن يقال عن عروس أخرى من طبقة أقل إن جدها "كناس زقاق" أي: كناس الشوارع -وهو ليس كذلك إطلاقاً، رغم أن لا عيب في ذلك أصلاً- أو أن يقال عن شاب تقدم لخطبة فتاة من الأسر العليا، بعد بحث وتمحيص ربما على الـ"إف بي آي" أن تستخدمه إن "جدته كانت تذهب لحمام السوق!"، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنهم لم يكونوا يمتلكون حماماً كبيراً مجهزاً بكل شيء في بيتهم في القرن التاسع عشر، بينما كان الأمر متوفراً في تلك البيوتات العليا مما لا يضطرهم إلى الاختلاط مع العامة في حمام السوق.
هذه الطبقية المبالغ بها تكاد تكون انقرضت تماماً، والحمد لله، لكنها كانت موجودة بوضوح، وإن بتناقص مستمر إلى عقود مضت.
فلنذكر هنا بعض الملاحظات عن "باشوات الموصل"، أي عن كبار ضباط الجيش العثماني من الموصل وأحفادهم من الضباط العراقيين من أصل موصلي:
أولاً: مشاركتهم في الثورة العربية، بقيادة الشريف حسين، ضد العثمانيين كانت فاترة جداً، عدد المشاركين من الضباط الموصليين كان قليلاً بالنسبة لعددهم في الجيش العثماني (4 ضباط من أصل 19 من العراق)، لا يعود ذلك برأيي إلى موقف سياسي أو فكري، إذ إن الأفكار القومية كانت قد انتشرت آنذاك في الموصل، لكنه يعود إلى "مهنية" ترى أنه من الخطأ التمرد على النظام العسكري.
ثانياً: عملياً الموصل لم تسقط بيد البريطانيين عندما انسحب الجيش العثماني منها عام 1918م؛ لأن الجيش البريطاني لم يدخلها إلا بعد توقيع معاهدة مودرس بين الجيش العثماني والبريطانيين، وحسب هذه المعاهدة فإن الحرب انتهت ولا يمكن للبريطانيين احتلال أراضٍ جديدة، وهذا ما جعل الضباط العثمانيين (أمين العمري من أهل الموصل) يعتصمون مع ثوار تلعفر، رافضين القبول بالواقع الجديد، ولم يفك هذا الاعتصام إلا عند تشكيل الدولة العراقية عام 1921م.
ثالثا: هؤلاء الضباط كانوا متشربين ليس فقط بالجدية والانضباط، وإنما بفكرة أن الجيش مؤسسة من مؤسسات الدولة، وليس هو الدولة بحد ذاتها، ولا يمكن له أن يسيطر عليها؛ لذا كانت مشاركتهم بالانقلابات العسكرية التي عصفت بالعراق ضئيلة، مقارنة بعدد قادتهم في الجيش وكتلتهم فيه.
فعندما قام بكر صدقي -من أكراد كركوك- بأول انقلاب عسكري في الوطن العربي عام 1936م على حكومة ياسين الهاشمي، قام آمر حامية الموصل (أمين العمري، مجدداً) بالانقلاب على الانقلاب وإعادة الحكومة إلى مكانها.
من ناحية أخرى، شارك الضباط الموصليون فيما يعرف بحركات رشيد عالي الكيلاني 1941م التي كانت موجهة ضد البريطانيين بشكل خاص، وكانت تعكس -في رأيي- حنيناً خاصاً للدولة العثمانية، بحكم أن دول المحور كانت تحارب بريطانيا، وأن الدولة العثمانية كانت يوماً ما جزءاً من هذا المحور، خاصة أن ألمانيا قدمت نوعاً من الدعم والوعود لرشيد عالي الكيلاني.
لاحقاً عندما قام عبد الوهاب الشواف -وهو بغدادي- بمحاولته الانقلابية ضد عبد الكريم قاسم عام 1959م فقد اختار الموصل نتيجة لثقلها المعارض للشيوعيين، وسانده فعلاً ضباط منهم، لكن الانقلاب فشل واستبيحت الموصل تماماً وارتكب شيوعيون جاءوا من كل أنحاء العراق عبر ما عرف بـ"قطار السلام" مجازر بشعة أسهمت في إحداث شرخ كبير، خاصة مع أهل ريف الموصل الذين اتهموا بالمشاركة في المجازر.
عدا هذا نأى الموصليون عن المشاركة في الانقلابات التالية التي وضعت العراق في مقدمات وضعه الحالي، وكان ما عرف بـ"كتلة الموصل العسكرية" قد عزلت نفسها عن السياسة، وركزت على الجوانب التقنية الإجرائية في الجيش، خاصة في حرب إيران التي اعتمد فيها صدام حسين عليهم، ولا ينفي هذا تورط البعض من ضباط أهل الموصل في قمع الأكراد، لكن ذهبت الألقاب الأكثر إجرامية لسواهم، مما يعني ضمناً أنهم كانوا أقل تورطاً فيها.
كما يعرف أن رئيس أركان الجيش نزار الخزرجي "الموصلي" قد حذر صدام من عواقب اجتياح الكويت عام 1990، والغريب أنه اكتفى بعزله ولم يعدمه، كما أن صدام في عملية اجتياح الكويت لم يدخل الجيش العراقي الذي كان تحت أمرة اثنين من الموصليين -رئيس الأركان ووزير الدفاع-، بل استخدم "الحرس الجمهوري" الذي كان تحت إمرته مباشرة، أما رئيس الأركان ووزير الدفاع (وهما المسؤولان عن الجيش العراقي الأصلي) فقد وضعا أمام الأمر الواقع عندما أخبرا فجراً عبر اتصال هاتفي بكلمات مقتضبة: "أكملنا احتلال الكويت".
بكل الأحوال نقل الموصليون جديتهم وانضباطهم العسكري إلى خارج الميدان العسكري وأصبح الأمر صفة ملازمة لهم.
في السبعينات انتشرت إشاعة بين العراقيين الدارسين والمقيمين في لندن عن حدوث محاولة انقلابية فاشلة في العراق، سبب الإشاعة هو أن رئيس أركان الجيش وأحد كبار مساعديه والملحق العسكري شوهدوا أكثر من مرة وهم يرتادون (المترو) في لندن، وفسر ذلك بأن ثمة محاولة انقلابية فاشلة قام بها هؤلاء، وأنهم فروا إلى لندن وصاروا يتنقلون بالمترو.
الحقيقة كانت أن رئيس أركان الجيش "شنشل" ومساعده "سعيد حمو"، والاثنان من الموصل "كانا في زيارة طبية" إلى لندن مدفوعة النفقات من قِبل الدولة، لكنهما ارتأيا الركوب في المترو توفيراً على الدولة، وتوفيراً للوقت أيضاً!! (أي حسبة مصلاوي، كما يقال، لكن الأمر بدا غريباً بالنسبة للبقية لدرجة أن وقوع انقلاب كان أقرب لأذهانهم من حسبة المصلاوي).
في كل مجال آخر دخلوه، يترك الموصليون انطباعاً عاماً أن هذا الشخص يتصرف كضابط، سمعتها عشرات المرات، عن أطباء موصليين وطبيبات موصليات يتم تعيينهم في الجنوب أو الوسط فيكون التعليق من قبل الزملاء: طبيب ركن، أو طبيبة ركن، في إشارة إلى كلية الأركان العسكرية، نفس الانطباع يكون عن المديرين أو الأساتذة الأكاديميين، أو حتى أسطوات العمل الحرفي، ثمة شيء عسكري فيهم يشير إلى الانضباط والجدية والولاء.
أعرف طبيب أسنان موصلي الأصل كان يذهب من مسكنه في بغداد إلى عمله في كربلاء كل يوم 120 كيلومتراً، فيصل قبل الجميع ممن يسكنون كربلاء نفسها، ويتحول الأمر إلى مشكلة؛ لأن المدير يعاير الجميع بهذا الموصلّي الذي يصل قبلهم، وعندما جاء وقت نقله إلى بغداد، كان لا بد لعهدته من أجهزة ومواد طبية أن تدقق من قبل مدير "المذخر" الذي يجب أن يكون حذراً لأن أي نقص لن ينتبه له سيكون في ذمته هو، جاء مدير المذخر ووقع على ورقة براءة الذمة دون أن يدقق على أي شيء وسط ذهول الجميع، فالتفت لهم، وقال: أنا أدقق على دكتور فلان؟ كان يجلب المواد من عيادته الخاصة لكي يسد النقص الموجود عندنا.
"لا أعمم، وكان حتماً هناك موصليون أقل التزاماً حتماً من هذا النموذج، ولكن الانطباع العام والصورة العامة هي هذه.. لا أريد فتح باب المناحة.. لكن هذه الذكريات أصبحت محزنة جداً، يستحق الموصليون شيئاً أفضل من الذي يتلقونه الآن".
من أهم مظاهر العسكرة التي بقيت في الموصليين هو ذلك البوق الصباحي الذي ينفخ في لا وعيهم وعقلهم الجمعي ويجعلهم يستيقظون مبكراً، كما لو أنهم لا يزالون يعيشون في معسكر عثماني تحت إمرة الباشا الذي يفرض عليهم القيام المبكر.
تكون هذه من أولى متاعب الزوجة غير الموصلية التي تتزوج من موصلّي، والتي غالباً لا يكون لديها أدنى فكرة عن هذا البوق، ولكنها ستصطدم بمحاولات إيقاظ غير مباشرة تبدأ من صوت المذياع "كلما كان مشوشاً كان أفضل" إلى استخدام الأدوات الكهربائية في المطبخ دون سبب، مروراً بالمشي في غرفة النوم بصوت مرتفع كما لو كان يدق الأرض دقاً.
يبدأ اليوم الموصلي مبكراً، كما لو أن أبواب الرزق تفتح مبكراً فقط، كما يقول صديق موصلي، وينتهي كذلك مبكراً، أحياناً في وقت صادم للبعض.
ففي الغد ثمة بوق صباح سينفخ مبكراً؛ لذا فالنوم المبكر أفضل.
******
يلخص الفرق من ناحية الجدية والانضباط بين العقل الجمعي الموصلي وسواه في العراق، موقف حدث لأرشد العمري عندما كان رئيساً للوزراء في الثلاثينات، كان أرشد في شبابه مهندساً درس وعمل في بلدية إسطنبول، وقد أبلغ مرة أن السلطان العثماني قد لاحظ أن خيله عندما تمر على الجسر الفلاني تصدر صوتاً معيناً، فكان جوابه أن على جلالة السلطان أن يأخذ الجسر الآخر.
لاحقاً عندما عين أرشد لرئاسة الوزراء، حدث أن طلب أحد وجهاء الأسرة الشاوية (الأسرة المعروفة في بغداد) مقابلته، فحدد له موعداً حسب الأصول، ودخل الرجل وقد حضّر قصيدة افتتح بها المقابلة، تتحدث القصيدة عن العلاقات الوثيقة بين الأسرتين العمرية والشاوية، وكان ذلك كله جزءاً من المعتاد في المجالس البغدادية آنذاك.
أما أرشد العمري، القادم من عقل جمعي مختلف تماماً، فقد قاطع ضيفه بصرامة قائلا بلهجة موصلّية:
أش خر** عمري… أش خر** شاوي.. قول ايش تريد؟
أي، بترجمة مهذبة: سحقاً للأسرة العمرية والشاوية معاً، قل ماذا تريد؟
(يتبع)
هذه التدوينة تم نشرها على موقع الدكتور احمد خيري العمري.. تجد رابطها هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.