ومضة هزيمة السُّنة في العراق

استهداف قيادات الحراك السني وشخصياته عن طريق أذرع الأحزاب الحاكمة وميليشياتها في بغداد، شخصيات كانت تمثل روح تلك التظاهرات وصمام أمان في إطار قواعد الاحتجاج السلمي المتزن والسائر في حقل ملغوم بالطائفية، أحرجت الفصيل المعتدل في التظاهرات، وسمح لخرق القواعد أن ينتشر في أوساطها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/03 الساعة 02:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/03 الساعة 02:19 بتوقيت غرينتش

شكّلت محنة التهجير التي تعرض لها السُّنة في العراق هزيمة ساحقة لهم؛ حيث أخذت هذه الهزيمة آثاراً نفسيّةً وأبعاداً اجتماعيةً على جيلٍ كاملٍ، ولكن للأسف ما زال البعض يتجاهل ما حدث، والبعض يكابر رغم الهزيمة، فيما يصرّ البعض الآخر على أن يبقى رهينة لهذه المحنة.

فمما زاد من المعاناة خلال هذه المحنة أنهم لم يتوقفوا منذ سنتين ونصف تقريباً عن تبادل التهم فيما بينهم بالتسبب في هذه المحنة، لم يتوقفوا طوال هذه الفترة عن طرح الأسئلة غير الصحيحة، بدل طرح التفسيرات المنطقية والتحليلات العقلانية، ولا نقول السعي في طرح الحلول لها.

إذا نحّينا جانباً سبب انطلاق تظاهرات المحافظات ذات الأغلبية السنية، الذي هو محاولة اعتقال وزير المالية السيد رافع العيساوي، يمكن النظر لتلك التظاهرات التي استمرت لعامٍ كاملٍ -21 ديسمبر/كانون الأوّل 2012 إلى ديسمبر 2013- والتي كانت السبب وراء دخلوهم في هذه المحنة هي أنها كانت آخر ممارسة سياسية جماهيرية لجأ إليها جمهور تلك المحافظات، معترضاً أو محتجاً على سياسات التهميش والإقصاء، وانتهاكات حقوق الإنسان، التي انتهجتها حكومات ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق.

كان لصدى صوت الاحتجاجات والاعتراضات -التي تخللت فترة التظاهرات- وقع اجتماعي مميز في الأوساط الشعبية والمنتديات الثقافية، فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي، إذ كان يوم الجمعة مناسبة واحتفالاً كبيراً للهجاء والتهكم ضد قيود الحكم الطائفي في بغداد، خاصة بعد أن استطاع القائمون على تلك التظاهرات بمرور الوقت ضبط إيقاعها وترتيب خطاباتها.

لهذا يمكن القول إن فترة الأشهر الستة الأولى لتلك التظاهرات أنتجت سلوكاً فريداً من نوعه، للرد على قدرة السُّنة على القيام بالتحشيد الجماهيري، يضاهي ما هو قائم في مناسبات "الشعائر الحسينية"، لدى الطائفة الشيعية الكريمة، لا بل تفوق عليها تنظيماً وترتيباً على قلة الدعم.

لكن الجو العام الذي طغى على تلك التظاهرات، والطريقة التي سمحت لبعض الأشياء المجتثة أن تقال فيها، أفرزت أيضاً وعلى حين غفلة "سلطة اجتماعية" كانت مكبوتة ومقموعة طيلة السنوات العشر التي سبقت التظاهرات؛ حيث برزت قيادات روحية وميدانية لتلك التظاهرات سميت فيما بعد بـ"الحراك السني"، فتحولت تلك القيادة لشيء يشبه ما يمكن وصفه بمانعة الصواعق لجميع أنواع التوترات والأحقاد الاجتماعية، نتحدث هنا تحديداً عن دور الشيخ عبد الملك السعدي والدكتور أحمد الكبيسي، وعلماء المجمع الفقهي وبعض الرموز السياسية والدينية والاجتماعية المناطقية، وهذا الأمر دون أدنى شك كان يمثل تهديداً صريحاً لشخصيات السلطة في بغداد وأتباعهم في المحافظات ذات الأغلبية السنية.

ويمكن لك أن تضع على الهامش حول المقصود هنا بأتباع السلطة في تلك المحافظات هم ابتداء من البرلمانيين الفاشلين ثم ضباط الجيش الطائفيين، وبعض أفراد الشرطة المحليين الذين أساءوا استعمال السلطة، ولا ننسَ هنا كبار موظفي الدوائر الفاسدين وعلماء السلاطين الذين كانوا شرهين أو داعرين.

وبديهي كان للمرء أن يتوقع أيضاً أن لاختلاف التوجهات الفكرية والخصومات السياسية والعداوات الطبقية يمكن لها أن تظهر عبر تقنيات التظاهر -سواء بين المتظاهرين أو قادة التظاهرات أنفسهم- والتي كانت تعكس طبيعة البنية السياسية التي تغيرت بعد 2003 والحَزازيّات التي نشأت بفعل الصِّلات السلطوية.

إن "السلطة الاجتماعية" التي تكونت بفعل التظاهرات كان يمكن لها أن تكون نداً لسلطة المرجعيات الشيعية، التي تمارس هذا الدور بشكل واضح بعد 2003، وهذا ما أقلق الجهات غير المنخرطة بالتظاهرات والمعروفة بـ"سُنة السلطة".

وما إن تدخلت هذه السلطة الاجتماعية "حديثة الولادة" في سجال قد يبدو غير معلن مع ممثلي بعض المرجعيات الدينية، حتى بدأت أذرع السلطة وميليشياتها بالعدوان، ميليشيات تغتال وتخطف، وإعلام يسخر ويحرّض، وتغض البصر وتصمت.

استهداف قيادات الحراك السني وشخصياته عن طريق أذرع الأحزاب الحاكمة وميليشياتها في بغداد، شخصيات كانت تمثل روح تلك التظاهرات وصمام أمان في إطار قواعد الاحتجاج السلمي المتزن والسائر في حقل ملغوم بالطائفية، أحرجت الفصيل المعتدل في التظاهرات، وسمح لخرق القواعد أن ينتشر في أوساطها.

فدخلت داعش على خط التظاهرات، وهي التي لا تؤمن في أدبياتها بمبدأ الرأي العام، فضلاً عن جدوى التظاهر أصلاً، دخلت بعد أن تم إخراجها من سجن أبو غريب في يوليو/تموز 2013، حينما نفذت القاعدة في حينها هجومها المشهور -هدم الأسوار- الذي أدى إلى هروب قرابة 750 سجيناً -ليصبح بعضهم فيما بعد وزراء في دولة البغدادي المزعومة- ولتظهر صورة 39 هارباً منهم علناً بين ملايين المتظاهرين في الشهر الأخير من سَنة التظاهرات؛ ليجد المالكي المبرر لكبح صوت الاحتجاج تحت غطاء مكافحة الإرهاب.

وبين استهداف قادة الحراك السني، واعتقال النائب أحمد العلواني، وتعدد الإهانات لجمهور التظاهرات، قام المالكي بنسف كل قواعد الاتزان، ومنح لجنون إرهاب الميليشيات الشيعية أن ينتشر؛ ليصبح جمهور السُّنة مغلوباً على أمره يجر خيبات الهزيمة والأمل بطبقته السياسية، ليبيت وهو فاقد الحيلة ينظر بإذعان، وليس أمامه أيّ خيار سوى الهجرة من مناطق الاشتباك والقصف العشوائي التي استخدمت فيها حكومة بغداد في حينها كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً التي بحوزتها.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد