موصل وحلب.. بلقان الشرق الأوسط وهلالها الخصيب المخضب بالدم

يوماً بعد آخر يقترب العالم بخطى متسارعة من حافة الهاوية، في ظل صراعات أثبتت أن الجنس البشري ما عاد لائقاً ليرث الأرض ومَن عليها، ويكفي المرء أن يشير بإبهامه إلى أي بقعة من المعمورة، ليقال له إن مجزرة رهيبة وقعت هنا.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/03 الساعة 02:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/03 الساعة 02:26 بتوقيت غرينتش

يوماً بعد آخر يقترب العالم بخطى متسارعة من حافة الهاوية، في ظل صراعات أثبتت أن الجنس البشري ما عاد لائقاً ليرث الأرض ومَن عليها، ويكفي المرء أن يشير بإبهامه إلى أي بقعة من المعمورة، ليقال له إن مجزرة رهيبة وقعت هنا.

لم يشهد التاريخ أن اجتمع العالم فيه ضمن تحالف واحد، كما هو حاصل اليوم، من أجل الحرب على تنظيم الدولة، إلا أن المعطيات على الساحة تؤكد، وبما لا يقبل الشك، أن جميع هذه القوى تتربص وتتحيَّن الفرص للانقضاض على بعضها.

خمس عشرة حرباً ستنشب بعد إنهاء تنظيم الدولة، بحسب تنبؤات لتقارير نشرتها صحيفتا "الواشنطن بوست" الأميركية و"موسكوفسكي كومسوموليتس" الروسية.

حروب توفرت لها الأسباب والدوافع، لكنها مؤجلة حتى إشعار آخر، لن يتجاوز البضع سنوات؛ ليصحو العالم بعدها على كوارث يعد فيها ما تسبب به تنظيم الدولة من أزمات سوى نزهة في حديقة مخضرة بالأعشاب قياساً على ما سيجري.

تشكيلة التحالفات للمعسكريْن المتنافسين الشرقي والغربي باتت واضحة المعالم، فضلاً عن التحاق دول أخرى ضمن دائرة الصراع التي تطمح لتنال مكاسب معطلة كنووي إيران وكوريا، ومحاولة الصين لتعديل قرارات التبادل التجاري التي أضرت بها إلى حد ما، فضلاً عن محاولة روسيا لكسر طوق الحصار عنها، يقابله تحالف خليجي – تركي خجول إلى حد ما.

ورغم ارتفاع حدة التوترات بين الخصوم التقليديين، فإن الجميع متفق على حصر المواجهة ضمن إطار الإنابة، عبر تحريك ودعم حلفاء محليين ضمن مناطق الصراع الحالية، وتحديداً العراق وسوريا.

هذه القوى المحلية ستتقاتل فيما بينها مستقبلاً لا محالة، فمعظمها يرغب في السيطرة على الأراضي التي يتركها التنظيم في مرحلة لاحقة، وبالتالي فنحن بصدد حروب محتملة ستنشب بين كل من القوات العربية المدعومة من تركيا، وبين سوريا الديمقراطية المسنودة من أميركا، وتركيا والأكراد السوريين، وأكراد سوريا ضد النظام السوري الحاكم، والولايات المتحدة ضد سوريا، وتركيا ضد سوريا، وأكراد العراق ضد الحكومة العراقية، وأكراد العراق ضد الميليشيات الشيعية، والأكراد ضد أنفسهم، والعرب السُّنة ضد الشيعة أو الأكراد معاً، وأخيراً وليس آخراً، بقايا تنظيم الدولة ضد الجميع.

وما جرى أخيراً من تصعيد خطير بعد هجمات كركوك بتاريخ 20 أكتوبر/تشرين الأول عام 2016 عُد بمثابة انطلاق الشرارة الأولى لمواجهة بات غبارها يلوح في الأفق؛ حيث قامت السلطات الكردية في المحافظة بتهجير مئات العائلات العربية، وهدم قرى المنسية وقوتان وإخلاء قريتي قوشتاية وقرتبة، كما أطلقت السلطات هناك العنان لأجهزتها الأمنية المتمثلة بقوات الأشايس الكردية بملاحقة النازحين ضمن المحافظة من مناطق الحويجة والشرقاط وطردهم خارج المدينة، بذريعة التعاون أو حتى التعاطف مع تنظيم الدولة.

الجنرال ديفيد بترايوس، القائد السابق للقوات الأميركية بالعراق، أعرب بدوره عن خشيته من تحول القوى المتحالفة ضمن الحرب على الموصل إلى قوى متناحرة بعد إتمام مهمتها، فيما لفت إلى أن المعركة الحقيقية ليست تحرير الموصل، بل تنظيف بقية نينوى من عناصر التنظيم، وصولاً إلى الحدود مع سوريا، عاداً هذه المنطقة بالذات الأكثر تعقيداً.

الأقدار شاءت بعد تدافع ومواجهات لسنين عدة، في أن تضيق دائرة المواجهات الفعلية وتنحصر ضمن نطاق دائرة تملك من الأهمية الاستراتيجية للدفع بالتكهن نحو احتمالية تدهور الأمور نحو الأسوأ، وهذه المنطقة هي السهل الممتد بين حلب فالحسكة والموصل، وهو حزام عربي سُني ما زال يحتفظ في طياته ببعض من الأنفة العثمانية، ويمتد على طول يقدر بنحو 1153 كلم، ويحاذي تركيا، وهي الدولة العضو في حلف الناتو، ولهذا الشريط إطلالة إقليمية دفعت بواشنطن لتعد حرب الموصل بأم المعارك، فيما وصف الكرملين مدينة حلب بستالين غراد.

أنقرة استشعرت الخطر الذي بات يطرق أبواب السلطان، وهي ترى المكاسب التي باتت تحصلها قوات سوريا الديمقراطية الكردية وما يطلق عليه بفصائل حماية الشعب، بعد الكشف عن دعم أميركي وأوروبي لهذه القوات التي تعدها بديلاً آمناً عن باقي فصائل المعارضة المسلحة ذات الطابع الإسلامي، وهو ما دفع تركيا لفرض سياسة الأمر الواقع، والوجود ضمن الجبهة عبر عمليات درع الفرات في سوريا، وإنشاء معسكر لها في بعشيقة بمحافظة نينوى بالعراق، وهو ما تسبب بإجهاض الحلم الكردي في إنشاء الدولة الأم ولو مؤقتاً.

تركيا لن تسمح بأي شكل من الأشكال في تغيير طبيعة التوازنات في المنطقة، أو محاولة التلاعب بخارطة التوزيع الديمغرافي للسكان؛ لأنها تعلم أن مشاركة ميليشيا الحشد الشعبي وحزب العمال الكردستاني الموجود حالياً وبشكل علني في منطقة سنجار بحرب الموصل، ستوفر حواضن وقواعد دائمة لتشكيلات تعدها أنقرة جماعات إرهابية، بعد أن يتم توطين وافدين شيعة شمال العراق، وطرد بعض من قبائل نينوى التي ستوجه لهم تهمة التعاون مع تنظيم الدولة، كما حدث سابقاً في مناطق "بلد ويثرب" بمحافظة صلاح الدين والفلوجة والرمادي بمحافظة الأنبار ومحافظة ديالى.

منظمتا العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش إضافة لصحيفة الميدل إيست، وثقت وبالأدلة عمليات انتقام طائفي نفذتها ميليشيات الحشد المرتبطة بإيران ضد مدنيين وأطفال مع أول أيام معركة الموصل، فيما قال مراقبون إن هذه الميليشيات تستمد قوة الاندفاع لديها نحو ارتكاب جرائم وانتهاكات من خلال القدسية التي أضفتها جهات عدة على المعارك في العراق وسوريا، فإيران تصف القتال في حلب كنصرة للإمام الحسين، فيما أعلنت رسمياً مشاركتها في معركة الموصل.

أما الغرب فلطالما همس بتصريحات لا تخلو من تلميحات نحو كون الحرب دينية مفصلية، فوزير الدفاع الفرنسي يؤكد السعي نحو القضاء على الخلافة، سواء التي على الأرض "التي أعلنها البغدادي" أو الافتراضية ويقصد بها الخلافة في الفكر الإسلامي، كما أكد "أشتون كارتر" هو الآخر وجوب الاستعداد لكل الخيارات بعد هزيمة تنظيم الدولة، أي أن الحرب لم تكن مختزلة بالقضاء على هذا التنظيم.

بدورها بثت قناة CBN الأميركية تقريراً مصوراً لمراسلها "كريس ميتشيل" من خط جبهة القتال قرب بعشيقة، ليكشف لنا التحاق فصائل من أكراد إيران مع قوات البيشمركة، وليس هذا فحسب، بل ظهر ضمن التقرير أيضاً ضابط في مغاوير بورما الحرة يدعى "ديفيد بويانك"؛ ليستفيض هذا الأخير في وصف قدسية المعركة وأهميتها، فيما لم يعرف ما دلالات وجود تشكيل كهذا ضمن معركة الموصل، وهو متهم بارتكاب مجازر ضد المسلمين في بورما.

أما السياسي اليهودي الفرنسي والمعروف بتوجهاته الصهيونية "برنار ليفي"، فقد ظهر هو الآخر على جبهات القتال قرب الموصل مع قوات البيشمركة الكردية في مقطع بثته قناة NBC News في موقف جديد ومثير للجدل؛ حيث أشاد بأهمية هذه المعركة لما ستوفره من أمان للغرب، وهو نفسه الذي وصف كلاً من العراق وسوريا بـ"مصنع الإرهابيين".

أما تل أبيب فلم تكن بعيدة عن المشهد، فقد تكفلت القناة الثانية الإسرائيلية بتغطية عمليات الموصل؛ لتظهر ببث مباشر من أرض المعركة وهي تمتدح الحشد الشعبي الذي سارعت مكاتبه الإعلامية لبث لقطات بروباغندا بخلفيات موسيقية منتخبة تظهر عناصره وهم يدقون أجراس الكنائس في بعض قرى نينوى، ومنها برطلة، بعد السيطرة عليها.

قدسية المعركة واحتدام الصراع دفع بأقطاب الدول لأن تدفع بكل قوتها نحو إثبات وجودها واستعراض ترسانتها العسكرية، فالبنتاغون ينفذ يومياً نحو 250 ضربة جوية ضمن حرب الموصل، وهو ما يعادل عشرة أضعاف طلعات الطائرات الأميركية في حرب الخليج، أمّا عن نفقات الحرب، فقد كلّفت العمليات المحدودة التي قامت بها الولايات المتّحدة قبل الإعلان رسمياً عن تدشين الحملة وبدء الحرب نحو 7.5 مليون دولار يومياً، فيما قدر "غوردن أدام" وهو أحد المسؤولين السابقين عن موازنات الأمن القومي في إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون، أن التكلفة الإجمالية قد تصل إلى 1.5 مليار دولار شهرياً، أي نحو 16 مليار دولار سنوياً.

وفي الجانب الآخر، فقد أرسلت روسيا أسطولاً هو الأضخم منذ عقود إلى السواحل السورية للمشاركة في الحرب على حلب، ويتألف من كامل أسطول الشمال وبعض سفن البلطيق، فضلاً عن سفن صاروخية جديدة لتعزيز وجودها في البحر المتوسط.

وفي المحصلة النهائية، ومع كل قرية وبلدة يعاد السيطرة عليها من بين أيدي تنظيم الدولة، فإن حدة التوتر والصراع تزداد هي الأخرى بين الشركاء الفرقاء في التحالف، ولكن يبقى الخاسر الأكبر هم المدنيون السُّنة، وهو واقع لخصته افتتاحية لأحد إصدارات مجلة "إيكونومست" أخيراً بالقول: "ألق نظرة فقط على أنقاض منطقة الهلال الخصيب، وسوف يظهر لك نمط مقلق من البحر المتوسط إلى الخليج العربي، يكون أولئك الذين يتحملون وطأة الحرب هم العرب السُّنة في الجزء الأكبر".

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد