يُحدثنا التاريخ أن لكلِّ حضارةٍ سماتٍ مختلفة عن الأخرى، وتنضوي تحت صورتها العامة الكثير من القيم، ولعل أكثر تلك القيم وضوحاً هي القيمة الدينية، فالحضارة الغربية عُرفت بأنها حضارةٌ مسيحية، ونظيرتها الشرقية عُرفت بأنها حضارةٌ مسلمةٌ، والهندية عُرفت أيضاً بالبوذية، وهكذا دواليك، وعلة وضوح وبروز الطابع الديني في الحضارات الإنسانية ناتجة من أهمية الدين بالنسبة لبني البشر.
ومُذْ بزوغ الإسلام قبل أربعة عشر قرناً، شهدت الحضارتان الغربية والشرقية الكثير من الصدامات المدمرة، وكان من الأسباب التي أدت إلى نشوئها الدوافع الدينية لكلا القطبين، ولكن لأن التعايش فَرض نفسه عليهما بعد تجربةٍ مرّةٍ من الخراب والدمار، بدأ تيارٌ فكريٌّ في الغرب والشرق يضع الدوافع الدينية جانباً، وسعى إلى الاستفادة من الآخر المختلف، من أجل إدامة الحياة البشرية وتقدمها.
في العصور الوسطى، اتجه الكثير من العلماء المسلمين -أمثال ابن رشد وابن سينا- إلى الغرب، واغترفوا من الحضارة اليونانية، ومن علومها المتقدمة إذ ذاك، وعلى رأس تلك العلوم الفلسفة، وقادوا راية التنوير والانفتاح على الكنوز اليونانية، والتجديد الديني والاجتماعي.
وطرح ابن رشد مسألة التعامل مع الغير -أي الفكر اليوناني- وعالجها معالجة علمية، فميز بين المنهج والنظرية، ودعا إلى الأخذ بالمنهج لا مقلدين بل فاحصين ومبتكرين، أما النظرية فاقترح بناءها بأنفسنا؛ لأنه يعي الفوارق بين الحضارتين الغربية والشرقية.
وعلى الرغم من الفكر النيّر الذي كان يمتلكه الفيلسوف القرطبي ابن رشد وأمثاله في تلك الحقبة، فإنهم جوبهوا بالتيار المحافظ والمتزمت، الذي كان يحمل أحقاد الماضي وتداعياته، واتهموا بالكفر والزندقة، وما كتاب "تهافت الفلاسفة" لأبي حامد الغزالي إلا مثالٌ على ذلك.
في المقابل، استفادت الحضارة الغربية – الأوروبية من أفكار المصلحين العرب، وأعادوا نقل أعمالهم التي شكَّلت أساساً لعصر النهضة، التي كانت سمتها الأبرز أنها ذات طابعٍ عربيٍّ، ومُذْ القرن الثالث عشر أصبح ابن رشد يُدرس في جامعة باريس وغيرها من الجامعات الأوروبية.
الطامة الكبرى، أنه ما زال في مجتمعاتنا العربية فئة لا يمكن الاستهانة بها تُؤمن بأمورٍ كالجهاد والتكفير اللذين كانا سائدين في العصور السوداوية الغابرة، ولا تزال هذه الفئة تعتقد أن الجهاد فرض على كلِّ مسلمٍ وضد كلِّ فردٍ "غير مسلم"، وهذا التوجه لا يمت للإسلام بصلة، فالله يقول في كتابه الحكيم: "مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَادٍ في الأرْض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً" (المائدة: 32)، ويقول الله أيضاً في سورة البقرة: "وَقَاتلُوا في سَبيلِ اللَّه الذينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِين"، أيّ أن خيار القتال يُلجأ إليه كآخر الحلول، كما كان يفعل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
تلك الفئة المتزمتة دائماً ما يقودها رجال دين ما زالوا يُؤمنون بأن سلطة التشريع تكون بأيديهم، كما كان الحال في عصور الخلافة بعد وفاة رسولنا الكريم، وهم أنفسهم لا يعرفون أن التشريع ليس فقهاً دينياً فقط، بل أصبح من الضرورة بمكان أن يخضع إلى الدساتير المدنية، والقوانين الدولية، وحقوق الإنسان، وغيرها من المبادئ التي باتت تحكم الدولة المدنية الحديثة.
وكما يعلم المنفتحون أصحاب الفكر النابه، فإن الجهاد تغير مفهومه، فأصبح مفهومه يقتصرُ على الدفاع عن الوطن والمواطنة وحقوق الإنسان المقدسة، ولم يعد بالإمكان عتق العبيد، فالقوانين الدولية تُحرم الاتجار بالبشر، وتبذل جهوداً مضنية للحدِّ من هذه الظاهرة، بالإضافة إلى العديد من الأمثلة التي تدل على أن أفكار العصر الجاهلي، التي يحملها بعضنا، من الاستحالة تطبيقها في القرن الواحد والعشرين.
منطقتنا العربية تحتاج إلى التجديد الديني والاجتماعي، وبناء منظومة قيم تحدد سلوك أفرادها، والتخلص من أولئك الذين يعتقدون أنهم "خلفاء الله في الأرض"، والذين حوّلوا المنطقة إلى دويلاتٍ ثيوقراطية، تُؤمن بخزعبلات "الشفاعة" التي يُقدمها الأولياء والصالحون و"السياسيون" أيضاً.
المشكلة الجوهرية تكمن في أن المحاولات الماضية للتجديد المنشود كانت غير عميقة، بل هي في الغالب شكلية، وتجلَّت في اتجاهين: الأول مُقلد أعمى يعتمدُ على النقل، والثاني يرى في الانفتاح فقداناً للهوية الدينية، ولكن السؤال الواجب طرحه هنا: لماذا لم يفقد الغرب هويته عندما اغترف من علمائنا؟
التجديد الحقيقي يبدأ عندما لا "تقتصر" نظرتنا إلى الغرب على أنه كافرٌ ومارقٌ ومحتلٌّ وغاصبٌ، بل لا بدَّ أن نستفيدَ مما وصل إليه، أليس هذا خيراً من أن نبقى نتشبث ونحلم بالأيام الخوالي؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.