أساتذة جامعيون يقفون أمام جنود يقنعونهم أن الحدود لا تُرسم بالدماء، وإنما بأجهزة الاستشعار عن بُعد!! ومعارضون يحدثوننا بأننا نتاج "سايكس بيكو"؛ ليصلوا لنفس النتيجة وهي القبول بالتنازل عن الأرض!!
تلاقٍ لافت جمع ضدين في لوحة سريالية لا يمكن لمثلي أن يفهمها.
ما أدركه سأحاول صياغته في السطور التالية.
من العوامل المهمة للتمدد السريع للإسلام أنه لم يأتِ بديلاً للانتماءات المتنوعة التي تشكل ضمائر الشعوب، فبقي العرب عرباً والفرس فرساً؛ وداخل العرب بقي العراق عراقاً وبقيت مصر مصر. أما أولئك الذين يرون في الوحدة الإسلامية انصهاراً في كيان سياسي مركزي فلا يقرأون التاريخ إلا من ذيله.
فالفترة العثمانية لم تكن النموذج الأكثر وضوحاً لمفهوم الوحدة الإسلامية فربما كان العصر العباسي أكثر تعبيراً عن ذلك المفهوم، ومع ذلك فإن الوجود التركي على رأس الخلافة لم يطمس القوميات، وإلى اليوم بقي الأكراد أكراداً حتى في الأرض التاريخية لتشكل الوجود التركي في المنطقة، كما لم يتخلَّ التُرك أنفسهم عن عنصرهم وقوميتهم وهم رأس الخلافة لمدة خمسمائة سنة، لسبب بسيط لأن الإسلام لا يُطالب أحداً بأن ينخلع من انتماءاته، وإنما أن يقبل انتماءً إضافياً أكثر شمولاً وسعة ويستند لمعايير إنسانية لا تلغي المعايير الوطنية لكنها تؤكدها، فهو سعيٌ لوحدة تجمع الوطنيات ولا تلغيها.
أسرع عمرو بن العاص بجيشه الصغير ليعبر حدود مصر قبل أن يبلغه خطاب الخليفة عمر بن الخطاب بالانصراف عن فتحها إن لم يكن قد بلغها، حتى إذا وصل جبل الحلال قبل العريش عسكر بجنده وفتح كتاب الخليفة، وهو مطمئن إلى أنه أصبح بحدود مصر، فكأن حدودها الجغرافية شكلت فاصلاً بين تاريخين للمنطقة، ما قبل الفتح في عام 641 ميلادية وما بعده.
وبقيت مصر بعد الفتح بكورها الثمانين موزعة بين مصر العليا ومصر السفلى دون تغيير إلا قليلاً حتى اليوم.
الحقيقة أن مصر منذ توحيدها على يد مينا عام 3200 قبل ميلاد المسيح -عليه السلام- وهي بجغرافيتها لا تتغير إلا على هوامشها بما لا يمس مجمل كتلتها اليابسة أو حدودها البحرية، فلم يختلف وصفها في كتاب وصف مصر لهيرودوت اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد عن وصفها في كتاب البلدان لليعقوبي الجغرافي المسلم خلال القرن التاسع بعد الميلاد، ولا عن وصفها في الكتابات الحديثة أجنبية ومصرية.
مصر قبل الفتح الإسلامي وبعده احتفظت بخصوصيتها، ولأجلها جرى تطويع الفقه ليُناسب تلك الخصوصية، وهي ميزة تُحسب للفقه الإسلامي ومرونته، وميزة لمصر تُعبر عن تماسك عناصر خصوصيتها بما يستأهل أن تختص بفقه يتوافق وميول وطبائع شعبها وخصوصية مكانتها.
نحن أمام بلد يتشكل العالم حوله ويتفكك لكنه يظل باقياً متماسكاً، وكأنه محور العالم الذي تدور من حوله الأحداث ويتركب على قاعدته التاريخ.
مصر لم تكن لا موضوعاً ولا جزءاً من اتفاقية سايكس بيكو المعقودة في 1916 بغرض تقسيم النفوذ والتبعية بمنطقة الهلال الخصيب حتى جنوب فلسطين، وإذا كانت مصر ضحية لعملية احتيال كبرى بين سنتَي 1892 و1906 تمثلت في اقتطاع أجزاء واسعة من أراضيها ومن ثمّ أمست تلك المساحات المقتطعة في النهاية جزءاً من تقسيم النفوذ باتفاقية سايكس بيكو، فإن ذلك لا يجعلها نتاجاً لتلك الاتفاقية إنما طرفاً متضرراً منها.
الحاصل أن مصر بتاريخها الطويل من الأمم القليلة محددة المعالم ومقننة الحدود الجغرافية، بما يعني أن حدودها جزء من بناء شخصيتها ومن عناصر هويتها.
ربما تمددت مصر عدة مرات عبر التاريخ لخارج حدودها، لكن ذلك جاء بقصد الدفاع عن ترابها وعن وجودها، فليست فقط الجغرافيا التي رسخت تلك الحدود وإنما أيضا الدماء والتضحيات التي قدمها المصريون دفاعاً عن بلدهم.
نوعان من الناس يجهلان مصر وجذورها في التاريخ وأهميتها لمن حولها عرباً ومسلمين وكل العالم: نوع يتعامل معها كشركة خاسرة يبيع أصولها ويتنازل عن جزرها ويُفرط في حقوقها لمحاولة إنقاذ مجلس إدارتها ولو غرقت بمن فيها، ونوع آخر يعتقد أنها نتاج لسايكس بيكو، فيقلل من أهمية حدودها، ويدعو الناس لأن يستبدل بها وطناً افتراضياً لا وجود له في الزمان أو المكان إلا في ذهن أولئك.
النوع الأول لا يستحق أن يقود بلداً كمصر؛ لأنه يفتقد أبسط المعرفة بتاريخه وبجغرافيته وبمكوناته وبقدراته، وبالتالي يفتقد الانتماء له، وهو أخطر من المحتل على مصر، لأن المحتل لا يفتتن به إلا خونة، أما هؤلاء فقد يثق فيهم بعض المخلصين، بينما هم يستغلون تلك الثقة لإهدار عناصر وجود مصر ومكانتها حفاظاً على جاههم وسلطانهم.
والنوع الثاني يصل لنفس النتيجة بأن يدفع من يسير خلفه ويتشرب فكره بأن يتخلى عن مصر ويُسلمها لقمة سائغة للفريق الأول دون مقاومة أو تنغيص. فكيف يقاوم استلاب وطنه من لا يؤمن أنه وطنه؟!. وكيف يدافع عن أسباب وجوده من يعتقد أن وجوده جاء بزمان خطأ ومكان خطأ، ويبحث له عن زمان ومكان افتراضيين؟!
حجم الدماء والعرق الذي بذله المصريون على مدار خمسة آلاف سنة لتجذير وجودهم وحفر معالم بلدهم على جدران التاريخ لا يسمح لمغامر أن يتنازل عن ذرة تراب من أرضنا ولا لمسامرٍ أن يدعو شعبنا لتسليم مفتاح البلاد لمستبديها والبحث لهم عن بلد آخر بحدود مغايرة.
ليس الأكاديميون وأساتذة الجامعات هم من وضعوا الحدود وضحوا لأجلها حتى يقفوا منتفخين أمام جنودنا يدعونهم لقبول التنازل عن جزء من أرضنا؛ إنما الجنود الذين ضحوا والدماء التي اختلطت بالرمال هي التي صنعت الحدود وليست أقلام أصحاب الياقات البيضاء الذين قبلوا أن يكونوا صوتاً لسلطة متنازلة.
فالرمال إذا اختلطت بدم الجنود دفاعاً عنها لا اعتداءً، لا تعود رمالاً بل مُهَجَاً لا تُباع ولا بمال الدنيا.
وليس القماشون (بتعريف الإمام السيوطي بمعنى من يصنع بساطاً من بواقي قصاصات أقمشة متناقضة الألوان) هم من يصنعون بتلفيقاتهم وطناً لشعب هو أقدم الشعوب المعروفة على البسيطة، فيدعونهم للتفريط في وطنهم وعدم التضحية لأجله والكف عن الاعتراض على التجارة بعناصره والتنازل عن أرضه بدعوى أن لهم وطناً أكبر.
لا هؤلاء صنعوا الوطن، ولا أولئك عرفوا الوطن.. فمن صاغه يعيش به ويعيش له.
نعم حدودنا ليست تراباً.. فهي مكتوبة بدماء وتضحيات امتدت على صفحة مساحتها بعمق التاريخ وبامتداد أرض مصر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.