في يوم من الأيام.. كانت طفلة عرجاء

حينها أحسست بخنجر ينغرس في صدري ويكاد يقتلع قلبي، فصرت أتنفس بصعوبة، وأخذت الدموع تلح على عيني تريد أن تنفجر شلالاً متدفقاً بغزارة، ولكنني حبستها غصباً عني، وتظاهرت وكأنني لم أسمع شيئاً، رغم أنني أضغط على نفسي بشدة للصمود أمامهن.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/01 الساعة 03:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/01 الساعة 03:33 بتوقيت غرينتش

ولدت بإعاقة جسدية، عرضتني لعمليات جراحية عديدة منذ مولدي، حتى غدا لي المشفى بكل ما يحمله من ألم وعزلة وكأنه قدري المحتوم، فهو لم يعزلني فقط عن المجتمع من حولي، ولكنه عزلني أيضاً عن طفولتي عندما فرض عليَّ الكثير من القيود الطبية بعد العمليات الجراحية، أختي التي تصغرني ذهبت للروضة، وأخي كان يخرج للعب في الشارع، أما أنا فأبقى في البيت مع أمي؛ لأنني بحاجة للعلاج المستمر ومراجعة الأطباء ومراكز العلاج الطبيعي.

سجَّلني والدي في المدرسة عندما أصبحت في السابعة من عمري، ومنذ ذلك الحين أخذت جميع أحلام اليقظة لدي تنحصر في المدرسة والحياة داخلها، والمعلمات، والصديقات اللواتي كنت أتمنى أن أراهن يحطن بي ويلعبن معي وأشاركهن الدراسة والمرح.. والحقيبة المدرسية التي سأحملها على ظهري، وكتبي الجميلة، ودفاتري الملونة، وألواني، وأقلامي.

وفي اليوم الأول من بداية العام الدراسي ذهبت للمدرسة برفقة أختي الكبرى "سلوى"، أرتدي المريول الأزرق الذي خلته لباس أهل الجنة لشدة حبي له وإعجابي به، رغم العَرَج الواضح لدي في ساقي اليمنى والتهدل الملحوظ في الجزء الأيمن من وجهي الذي يجعل شكلي غير طبيعي، ومنذ اليوم الأول في مدرستي بدأت أرى إشارات الطالبات إلى وجهي وإلى ساقي العرجاء، وكنت أرى ضحكاتهن وأسمع كلمات الاستهزاء التي ترافقها الإيماءات إليَّ، وبعضهن يشرن إليَّ ويسمعنني عبارات الشفقة مثل: "يا حرام" و"مسكينة" وغيرها، التي يتلفظن بها اعتقاداً منهن أنهن يدعمنني ويؤنسنني بتلك الكلمات.

دخلت إلى غرفة الصف الأول مع بقية طالبات صفي، رحبت بنا المعلمة وكانت تتأمل وجهي أنا تحديداً خلال ذلك، ثم أخذت ترتب جلوسنا في المقاعد حسب طول القامة، أجلستني في المقعد الرابع وطلبت من إحدى التلميذات وكانت جميلة شقراء الشعر زرقاء العينين، أن تجلس إلى جانبي في نفس المقعد، فرفضت التلميذة ذلك بشدة، وأخذت تبكي بصوت مرتفع، سألتها المعلمة: لماذا ترفضين الجلوس هنا؟ فأجابت: أنا لا أجلس إلى جانب عرجاء ذات وجه مخيف.

حينها أحسست بخنجر ينغرس في صدري ويكاد يقتلع قلبي، فصرت أتنفس بصعوبة، وأخذت الدموع تلح على عيني تريد أن تنفجر شلالاً متدفقاً بغزارة، ولكنني حبستها غصباً عني، وتظاهرت وكأنني لم أسمع شيئاً، رغم أنني أضغط على نفسي بشدة للصمود أمامهن.

حاولت المعلمة مع طالبات أخريات لتجلسهن إلى جانبي ولكنهن رفضن أيضاً، فبقيت في المقعد وحدي، بينما بقية المقاعد تجلس فيها طالبتان أو ثلاث.

ومرَّ أول يوم لي في المدرسة بسلام دون أن أظهر ضعفي.. وكان يوماً قاسياً جداً على طفلة مثلي لن أنساه ما حييت، وبمجرد دخولي البيت انفجرت باكية بمرارة، وكلي إصرار على عدم العودة للمدرسة مرة أخرى.. احتضنتني أمي، ومسحت دموعي وأسبغت عليَّ من حنانها الفياض وهي تبتسم بعطف.. وكانت مدركة تماماً لما جرى معي.

وبدأت تعلمني درساً مهماً في كيفية معاركة الحياة حتى أكون المنتصرة في النهاية، فقالت: كنت أعلم تماماً أن شيئاً من هذا القبيل سيحدث معك، وإذا انتبهت حاولت سابقاً التمهيد لما كنت أتوقع حصوله، ولكنك كنت تغوصين في أحلامك الوردية، ففضلت أن أتركك تعيشين تلك اللحظات بسعادة؛ لأنه سيأتي الوقت الذي ستتعرفين فيه على الواقع المرِّ وحدك، شئت أم أبيت، ولكن حان الوقت الآن لتتعاملي مع هذا الواقع وتكوني أنت الأقوى.. أول شيء أريد قوله لك إنك إنسانة رائعة، بل وشجاعة جداً؛ لأنك استطعت تحمل هذه المواقف التي تعرضت لها في المدرسة ولم تنهاري أو تضعفي، بل تعاملت معها بثبات أشكرك عليه، وأعيد عليك الكلام الذي أقوله لك دائماً: لا يهمنا ما يقوله الآخرون عنا ما دمنا نفعل الشيء الذي يتماشى مع مبادئنا وديننا وأخلاقنا، ولا تنسي أن هناك الكثير من الأشياء الأخرى أهم بكثير من الشكل الخارجي للواحد منا، فالأخلاق التي تزيننا، والدين الذي يملأ روحنا ويتضح في رقي سلوكياتنا، ومبادئنا التي لا نتنازل عنها، ولطفنا في التعامل مع الناس والإحساس بشعورهم وتقديرهم واحترامهم، كل هذه الأشياء هي الأهم.


أنت تريدين الذهاب للمدرسة؛ لأنها الطريق الجيد الذي سيوصلك لحلمك الذي تحدثينني عنه دائماً، فهل ما زلت تصرين على أن تصبحي طبيبة أطفال؟
أجبت أمي وأنا أبكي: نعم، أنا لا يمكن أن أتصور نفسي غير ذلك.

تابعت أمي كلامها: إذن، لا بد أن تتعلمي في المدرسة، وتتفوقي في دروسك، ولا تأبهي بمن يحاولون جذبك للخلف، بل اصمدي، وتغلبي على ما يعترض طريقك من عقبات؛ لتصبحي طبيبة أطفال مميزة وبارعة.. وهذه المواقف التي تعرضت لها اليوم ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، تعلمي كيف تتعاملين معها، ولا تدعيها تؤثر فيك.. بل اجعليها تحدياً لك؛ لتكملي طريقك الذي رسمته لنفسك.

وتتابعت الأيام، وتفوقت في دراستي في جميع المراحل المدرسية، كانت أمي لي خلالها خير داعم ومعين لأجتاز جميع الصعاب والعقبات التي تعثرت بها وكدت أتراجع أمامها، زرعت في نفسي الثقة بالنفس والمثابرة وعلمتني حسن التصرف، رغم أنني كنت أجدها تقسو عليَّ في كثير من المواقف وتضغط عليَّ بشدة لأبقى قوية، فلم تسمح لي بإظهار ضعفي، أو التعلل بأي عجز لدي عن تحقيق أهدافي الكبيرة.. فمثلاً كانت حصة الرياضة الأسبوعية من أكثر الصعوبات التي واجهتها، فلم تسمح لي والدتي أبداً بأن أطلب من المعلمة عدم المشاركة في أي من الألعاب بسبب عرجتي، بل كانت تدربني في البيت على الألعاب؛ حتى لا أكون أقل من زميلاتي في المدرسة.

ومضت الأعوام بسرعة، وتخرجت في الجامعة، وحصلت على قبول لدراسة تخصص طب الأطفال.. وأخذت أصل الليل بالنهار أدرس وأناوب في المشفى، لأبقى إلى جانب مرضاي من الأطفال الذين كانت البسمة ترتسم على وجوههم بمجرد رؤيتي، كنت أداعبهم، وأروي لهم الحكايات السعيدة خلال عملي معهم، فما كانوا يرفضون إجراءه مع غيري من الأطباء، كانوا يوافقون عليه معي، حتى أصبحت لي سمعة طيبة جداً بين الناس وبين موظفي وإدارة المشفى الذي كنت أناوب فيه.

والحمد والشكر لله، حصلت على التخصص بعد إصرار كبير وجهود مضنية لأحقق الهدف، وفي حفل التخرج.. طلبت أن تصعد أمي على المنصة التي وقفت عليها لإلقاء كلمة.. انحنيت أمامها أمام الجميع وقبلت يدها دون أن أستطيع إمساك دموعي.. وقلت للحضور بكل فخر: هذه السيدة البسيطة، الأم العظيمة، هي السبب وراء وقوفي هنا أمامكم اليوم، هي التي علمتني النجاح، ولم تقبل مني في يوم أقل من التفوق.. ومهما فعلت، لا أجزيها أجرَ ما فعلت لأجلي.

وتوجهت لأمي قائلة: أمي كنت دائماً تذكرينني بالحلم الجميل الذي طالما دفعتني لتحمل الصعاب لأجله.. ها هو ذا قد تحقق وأصبح واقعاً ملموساً.. ها أنا ذا يا أمي قد أصبحت طبيبة أطفال، وفاءً لك يا أمي.. وتقديراً لجهودك.. لأجلك يا أمي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد