في أواخر عمره الذي أفناه في سدة القرار الإنكليزي ارتكن تشرتشل إلى منزله في هايد بارك وحيداً مجرداً من كل نياشينه، ومحروماً من لقب الدوق، بعد أن انتزعه منه الأمير المتعجرف راندولف غيرة وحسداً.
ذات يوم في شرفته كان بمعية حلاق يداوم على قص شعره أسبوعياً، قال تشرتشل للحلاق: "يا بني لقد أفنيت عمري في الحرب والسلم أخدم الوطن.. تبا للوطن"، تذكرت القصة أعلاه وأنا أقرأ خبر وفاة شاب في الحسيمة تحت جرافة الأزبال، بسبب ظلم أحسه وذل ممنهج استشعره.
ماذا لو قرأ تشرتشل قصصنا المميتة؟ ماذا لو بقي حياً حتى يرى " مي فتيحة" و"البوعزيزي" و"شاب الحسيمة" يحرقون ما تبقى من ركام كرامتهم؟ هل كان ليلعن لندن والعجوز إليزابيث الثانية؟ ويزيد ظلم الوطن أنه لا يختار لنا ميتة تليق بنا، وكأنه في كل حقب التاريخ تدرب في نفس الثكنة وعلى يد نفس الجنرال.
هوبز العظيم حين عرف الوطن، قال: "حتماً هو ذاك الفضاء الذي يكون فيه البشري إنساناً.."، الأوطان التي كان العربان أكثر الناس غناء لها، وأناشيدنا الوطنية أكثر لحناً من غيرها، في كل عهد، منذ حضارة أطلس القديم يذكرنا الوطن أنه ينسى الجميل.
الكل مطحون في بلدي، فقط تختلف فينا الأساليب حسب المقام الاجتماعي، وحسب المدرك الفطري، فوطني عدل في قضائه، فقط سدة الأعيان وأصحاب البذل الذين يعطون الأوامر بالطحن يمثلون ظلم الوطن، تاريخ الطحن في المغرب تاريخ قديم اكتوى به العلماء قبل العامة، في منظومة لا يزال الجهل متعمداً، والاستبداد علامة تجارية مسجلة وسط "المخزن"، وقصة صبر هذه الأمة أزعم أنها كتاب مقدس لتلاميذ المصائب، فالتنكيل بها اتخذ سياسة رسمية، والصبر كل الصبر أصبح عقيدة عربية، وتكاد تكون آيات صبر أيوب قرآناً مفرداً، فيحكى أنه قيل -والعهدة على صاحب الاستقصاء- إنه في عهد الموحدين نزل الناس على والي مكناسة الزيتون يشتكون استيلاء خدام أرضه على جل المياه حتى يبست الأرض، وقضي على الزرع فارتعدت فرائص الوالي، وقال للقوم: كيف تجرؤون؟ فنكل بهم وربطهم على جذوع النخل في قباب مراكش، وقطع الأوصال، بل وهجر الأهالي من حوالي أرضه، ولسان حال المنكوبين يقول: تباً لهذا الوطن.
يقال -والعهدة على الزياني صاحب "تاريخ الدولة السعدية"- إن رجلاً من عدوة سلا قد اشتكى قاضي القضاة أنه عسر عليه رزقه بأن أمر الشُّرَط بتشطيب السوق من كل بائع ملح؛ لأن سيادة القاضي استورد ملحاً من الهند، وبدأ التجارة فيه، فراسل المسكين حاجب السلطان، الذي كان صديقاً للقاضي، فأعلمه بالأمر، وبأن اجعل لنفسك مخرجاً ومسلكاً، فغضب القاضي، واستدعى المسكين فأمر بحرقه تماماً كما تحرق خرفان الموائد، حتى إن الزياني يحكي أن الناس سمعت صراخ المسكين من رؤوس الجبال، فكتب شاعر الفقراء "الإمام المنجور" شعراً يكاد يقول تباً لهذا الوطن.
يقال -والعهدة على علي بن أبي زرع- إن الطحن زار أمتنا في عهد بني مرين، فكان والي فاس يعطي الأوامر بأن اصلبوا كل ذي كبد من بني صنهاجة؛ لأنهم ناصبوه الرفض وعارضوا التنصيب، وذات يوم استدعى ابن الراقي وأحسن استقباله وأطعمه سماً زهاقاً، والغريب أنه سبَّ أُمه، وظل يسبها والسم يطحن أمعاءه، فنَم قرير العين يا سيدي صاحب السمك، فأنت سليل قبيلة المطحونين دهراً وقهراً، نَم في سلامك المرغوب من الأموات، المفقود من الذي أمر بطحنك وأمر بظلمه بأن تحرق "مي فتيحة" نفسها، واتركوا لنا مكاناً، فالقبور في نقصان، والموتى في ازدياد، وميت القدر ليس كميت القهر.
يقال إن أتباع ابن الراقي قتلوا تقتيلاً ومن بقي منهم أصبح يهجو الوطن: تباً لهذا الوطن
يقال -والعهدة على حسين هيكل- إن السادات قبل أن يقتل بيوم دخل في نقاش حاد مع بعض جنرالات الجيش، وتحدوه، بل وصل بهم الأمر أنهم هددوه بأن لا يخلفوا من أثره إلا الاسم واللقب، فاتصل أنور السادات بهيكل يخبره بأنه تباً لهذا الوطن.. الرئيس يا سادة يلعن الوطن.
وهل أقص عليكم قصص المولى إسماعيل وجيش البخاري وقصص طحن المساكين وسبي النساء وحرق الأعلاف والأغلاف والسومة والدومة والقوم العرب منهم والروم، تغيرت كثيراً ملامح الأوطان، لكن في وطني وفاء وإخلاص للطحن، فغريب أن ترتبط ثورات جوعنا بالطحين ويزف موتانا بطحن العظام والرميم، ولا عجب أن الشباب اليوم يقف طوابير أمام الحواسيب يملأون استمارات قرعة أميركا في عملية حلم جماعي وتمنٍّ هلامي، بحثاً عن وطن، تكون فيه شاحنات الأزبال مخصصة لغرض جمع السماد لا طحن العباد، هنا رغم الكفر وطن، رغم أنهم يقتلون فينا منذ الأزل، لكنه وطن، فعلى الأقل هم يُبيدوننا بحرب معلنة وسلاح معروف، فالموت في الساحات ليس كالموت في الشاحنات.
حتى إن علماءنا لم يسلموا من الطحن، فالمنجرة هجر تهجيراً، وحين قدم مجلداً للقائمين بالأمر في المغرب حول التعليم وكيفية النهوض به تلقى جواباً مخزياً طاحناً، فاختار الكبير أن يعيش في لندن "الوطن"، وحين سئل ذات يوم في برنامج إذاعي عن وطنه، قال قولته الشهيرة: "الناس هناك جبلوا على الخوف، والعلم لا يستقيم والخوف".
الجابري المرجع في المشرق والمهمل في المغرب في مجلة عربية شهيرة كتب عن تاريخ الحسرة والحيرة وإبعاد العلم عن الناس، وتنبأ ذاك العظيم أنه في المغرب الأقصى ستلعن الناس الوطن، وستقول حتماً: تباً لهذا الوطن.
ومن عجائب القدر وأنا أكتب مقالي هذا سمعت صراخاً خارج البيت، وإذا بشابين يختصمان، أحدهما عوض أن يضرب خصمه يصرخ بملء الصوت وبطريقة العامة ولغتهم: تباً تباً لهذا الوطن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.