عفواً سيدي.. فلتذهب إلى الجحيم

في مايو/أيار 1967 تم تنظيم استعراض عسكري للجيش المصري المتوجه إلى "سيناء" لمواجهة "إسرائيل"، وقد شارك بالاستعراض آلاف الجنود رافعين أيديهم بالتحية العسكرية للزعيم "جمال عبد الناصر". لم يكن هؤلاء المغدورون يعرفون أي شيء عن المذبحة التي تنتظرهم في "سيناء" في حين يجلس الزعيم على مقعده الوثير مُحاطاً بحراسه وبين حاشيته.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/21 الساعة 03:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/21 الساعة 03:01 بتوقيت غرينتش

منذ وُجد الإنسان على ظهر الأرض ووُجد معه الصراع ونشأت على أثره الحروب التي لم ترحم صغيراً ولا كبيراً ولا رجلاً ولا امرأة ولا حتى الحيوانات ولا الجماد، حروب خاضها بنو البشر قُتل فيها مَن قُتل وجُرح فيها مَن جُرح لكي يحيا شخص ما يدعونه بالزعيم..من أجل الزعيم قاتلوا.. ومن أجل الزعيم دمروا.. ومن أجل الزعيم قُتلوا..

حين يُصبح الإنسان رقماً، حين تقرأ في مذكرات القادة العسكريين ستجد عبارات مثل "وضعنا في تلك الجبهة فرقة مكونة من ثلاثة آلاف رجل وفي تلك الجبهة أربعة آلاف رجل.. إلخ"، كما ستجد عبارات أخرى مثل "لقد اتخذنا قراراً وكنا نعلم أن هناك مخاطرة كبيرة، لكننا قلنا لنجرب تلك المناورة"، حينها تشعر بأن الإنسان أصبح رقماً في حسابات أولئك العسكريين غير الآبهين بحياة جنودهم الذين طالما خطبوا فيهم خطباً حماسية لشحذ قدراتهم واستدعاء وحشيتهم ليحرقوا الأخضر واليابس من أجل الزعيم، ليت هؤلاء الجنود يعودون من مرقدهم ليقرأوا كيف نعتهم قادتهم في يومياتهم ومذكراتهم.

تخيل طفلاً سورياً لم يتعدَّ عمره الست سنوات يخرج ليلهو أمام منزله مع رفقائه الصغار، ثم تأتي طائرة لتقصف المنطقة، وتحيلها إلى ركام، وتحيل معها أحلام هذا الصغير إلى أطلال، لمجرد وجود بعض المسلحين في تلك المنطقة.

إن نجا الصغير فقد بدأت معاناته، وإن قُتل فقد بدأت معاناة أهله ومحبيه، أي عقل لدى هذا الأحمق الذي ضغط على زر الإطلاق؟! وأي أحمق من أعطى الأمر له بأن يفعل؟! وأي أحمق أعطى الأمر أن تبدأ الحرب التي لا تراعي إلاً ولا ذمة في أبناء الوطن؟! كل هذه الوحشية والدمار ليحيا الزعيم؟!

طموحات المغدورين

حين تقرأ الأخبار التي تغطي القصف الهمجي الذي يمارسه الطيران الحربي في مختلف مناطق النزاعات، وتسمع المراسل وهو يدلي بحصيلة الضحايا ليذكر عدد القتلى وعدد الجرحى ستُصاب باللوث العقلي إن أعطيت لعقلك الفرصة أن يفكر في ضحية واحدة من هؤلاء الضحايا.

بعض هؤلاء الضحايا كان رب أسرة ومصدر دخلها الوحيد، وها هو قد رحل وتركهم بدون عائل، ماذا عن زوجته وأولاده؟ مَن سيهتم لحالهم؟ بعضهم لم يمُت، ولكنه فقد بعض أطرافه أو أصبح لديه إعاقة مستديمة. شاب في الثانية والعشرين من عمره قد تخرج لتوه في الجامعة، وإذا به يجد نفسه بدون مقدمات، قد أصبح غير قادر على العمل.

تخيل شعور هذا الشاب وهو يرى أحلامه قد تحطمت على صخرة فعل أحمق لم يكن يدور بخلده يوماً أن يواجه هذا المصير.. بعضهم فقد زوجته وأطفاله تحت الأنقاض، ولكنه لم يكن بالمنزل فلم يستهدفه القصف، ماذا تبقى لهذا الرجل من أمل في الحياة؟ لقد قتلوا عائلته وقتلوا معها أحلامه وذكرياته الجميلة.

ماذا عن ذلك الطيار الأحمق الذي دمر خلفه كل شيء إن سقطت طائرته وسقط معها مقتولاً؟ هل استحق الزعيم أن يبذل حياته لأجله؟ هل اهتم الزعيم بأن يوفر لأسرته معاشاً وفيراً يُؤمن لها عيشة كريمة وحياة رغدة؟ هل وقف الزعيم على قبره لتأبين الرجل الذي قاتل من أجله؟

لا بأس.. ليحيا الزعيم!! لا أحد يهتم، تبقى معاناة النساء في الحروب هي الأشد والأنكى، لطالما كانت النساء ضحايا لتصرفات همجية يقوم بها شذاذ الآفاق من الجيوش الغازية حين يدخلون إلى القرى والبلدات ليحرقوا الأخضر واليابس من أجل الزعيم.

يحكي فيلم "امرأة من برلين" معاناة النساء الألمان على يد الجنود السوفييت الذين احتلوا العاصمة الألمانية "برلين" مناصفة مع جيوش الحلفاء مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.

تحدث الفيلم عن الاغتصاب الممنهج الذي حدث للنساء الألمان على يد السوفييت، وتحدثت التقارير عن حالات اغتصاب حدثت لنحو مليونين من النساء الألمان، لم يكن جنود الحلفاء أفضل حالاً، فلقد تحدثت تقارير عن عشرات الآلاف من حالات الاغتصاب التي ارتكبها الجنود الأميركان بحق النساء الألمان.

لم يهتم أحد لحال أولئك النسوة، بالكاد تتمكن بعض التقارير من الحديث عن جرائم الاغتصاب التي حدثت، وتعاني تلك التقارير الأمرَّين حتى تجد سبيلاً للنشر، ليقف بنو البشر على ما يقترفونه من جرائم بحق بعضهم البعض.

لم يهتم "ستالين" أو "تشرشل" أو "ترومان" بالحديث عن هؤلاء الضحايا أو تعويضهم، لقد اعتبروها مجرد ترهات لا تستحق الاهتمام إن لم يكونوا قد أمروا بها.

لا بأس.. ليحيا الزعيم!!

هل تستحق التضحية يا سيدي؟
وقف الجندي الفرنسي بقامة مشدودة تحية للإمبراطور الفرنسي "نابليون بونابرت" مقسماً للزعيم بالقتال من أجله حتى الموت، لم يدر بخُلد الجندي الفرنسي المغدور أنه سيكون واحداً من ضمن ستمائة ألف رجل ضحى بهم الزعيم في مستنقعات روسيا عام 1812.

لقد فقد الفرنسيون تسعين في المائة من رجالهم في روسيا، رجع من تبقى حياً من أولئك الجنود الفرنسيين ليجد أن زعيمهم الذي قاتلوا من أجله قد قُبض عليه أثناء محاولته الهرب إلى أميركا.

في مايو/أيار 1967 تم تنظيم استعراض عسكري للجيش المصري المتوجه إلى "سيناء" لمواجهة "إسرائيل"، وقد شارك بالاستعراض آلاف الجنود رافعين أيديهم بالتحية العسكرية للزعيم "جمال عبد الناصر".

لم يكن هؤلاء المغدورون يعرفون أي شيء عن المذبحة التي تنتظرهم في "سيناء" في حين يجلس الزعيم على مقعده الوثير مُحاطاً بحراسه وبين حاشيته.. قُتل منهم مَن قُتل، وجُرح منهم مَن جُرح، ووقع في الأسر منهم مَن وقع، وحتى من عاد منهم حياً فقد ترك خلفه رفقاء السلاح قتلى في رمال أرض الفيروز، أو جرحى لم يجدوا من يسعفهم ويحملهم.

رجعوا ليدركوا الحقيقة المرة أن الزعيم الذي وعدهم بالكرامة والنصر قد جلب لهم بفشله إحدى أكبر الهزائم العسكرية التي تلقاها الجيش المصري في تاريخه الحديث.. عادوا ليجدوا وسائل إعلام الزعيم تحدثهم عن النصر السياسي الذي تحقق ببقاء حكم الزعيم.

بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، عاد آلاف الجنود المصريين والسوريين من جبهات القتال مع "إسرائيل" ويملأهم الأمل أن الزعيم سيستثمر تضحياتهم وتضحيات رفقائهم لصالح القضايا الوطنية والعربية، ولمَ لا؟ لقد وعدهم الزعيم بذلك، ومن أجل ذلك قاتلوا.

بعد أقل من خمس سنوات صُعق الجندي المصري حينما وجد الزعيم يُوقع مع "إسرائيل" اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1978 معلناً خروج مصر من المعادلة العربية، وانسلاخها من التزاماتها التاريخية نحو أمتها العربية والإسلامية.

لم يكن الجندي السوري أوفر حظاً من شقيقه المصري حينما أفاق على مشهد الجيش – الذي كان جندياً فيه يوماً ما – يرتكب المجازر بحق مدينة "حماة" عام 1982، لسخرية القدر أن البعض من أولئك الجنود السوريين لم يلقَ حتفه على يد الجيش الإسرائيلي في حرب 1973، ولكنه قُتل بطلقة من بندقية ربما حملها بيديه من قبل، هل هذه سوريا التي وعدهم الزعيم أن تكون بلد الكرامة؟

عفواً سيدي الزعيم.. فلتذهب إلى الجحيم.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد