بدأت ملامح المعركة التي تدور رحاها على أطراف الموصل بالتغير، ولم تكد تكمل يومها الثالث، فقد أفادت الأنباء الواردة من ساحة المعارك، بأن تنظيم "داعش" قد نجح في صد الموجة الأولى من الهجمات التي شُنت على مواقعه في القرى والبلدات المحيطة بالموصل، وبدأ بهجوم مضاد على القوة المهاجمة.
ويبقى أحد أهم العوامل التي غيرت المشهد العسكري في معركة الموصل وبهذه السرعة، هو عدم التنسيق بين القوات المهاجمة، فقوات البيشمركة تتهم القوات الحكومية ببطء التقدم، ما جعل قوات البيشمركة تنفتح على جبهة عريضة بمواجهة "داعش"، وتسبب في إيجاد مناطق رخوة أمنياً يمكن لـ"داعش" أن تهاجم البيشمركة من خلالها، في حين تراجعت القوات الحكومية في مناطق كانت احتلتها في اليوم الأول بسبب الهجوم المضاد الذي قامت به "داعش" على تلك القوات، والانتشار الكثيف لقناصة "داعش"، ما أجبر القوات الحكومية على الانسحاب إلى الأطراف الجنوبية الغربية من مدينة قرقوش.
يذكر أن هناك جموداً في الحركة بالمحور الغربي من جهة سنجار، الذي توجد فيه ميليشيات الحشد الشعبي وحزب العمال الكردستاني.
ويُرجح أن يكون هذا الجمود إما لفتح الطريق لعناصر "داعش" كي تنسحب إلى سوريا إذا ما حققت القوات العراقية تفوقاً عسكرياً على "داعش"، وإما خشيةً من المستجدات الجديدة بدخول القوات الجوية التركية على خط المشاركة بمعركة الموصل؛ حيث إن الأتراك يعدون حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية، وفي الوقت نفسه تتهم تركيا ميليشيات الحشد الشعبي بارتكاب جرائم حرب في معارك سابقة ضد المدنيين وهذا ما لا تريده في الموصل.
علماً أن وجود هذه الميليشيات في المعركة هو أحد أهم الأسباب التي تتذرع بها تركيا لغرض مشاركتها في معركة تحرير الموصل.
وعلى ما يبدو، فإنَّ الانتصارات المحدودة التي حققتها القوات الحكومية وقوات البيشمركة في اليوم الأول من المعركة رفعت حماسة الحكومة العراقية، لفتح جبهة أخرى في مدينة الرطبة التابعة لمحافظة الأنبار (أقصى غربي العراق)، إلا أن القوات الحكومية تكبدت خسارة قاسية في هجومها ذلك وقُتل أكثر من 20 جندياً فيها.
إنَّ سلسلة التراجعات التي تلحق بالقوات المهاجمة أمام "داعش" تجعلنا نرجح أن معركة تحرير الموصل سوف تستغرق مدة أطول مما تتوقعه الحكومة العراقية، وليس مثل ما تخطط بانتصار خاطف وسريع.
المعركة السياسية قبل معركة الموصل
مهدت الحكومة العراقية لمعركة تحرير الموصل، بحركة سياسية نشطة، لإزالة القلق المحلي والدولي من الانتهاكات المحتمل حدوثها لحقوق المدنيين المحاصرين في الموصل على يد القوات الحكومية وميليشيا الحشد الشعبي، والذي أكدته منظمة العفو الدولية في تقريرها الذي صدر الثلاثاء 18 أكتوبر/تشرين الأول، حيث حذرت من انتهاكات جسيمة محتملة ستطال المدنيين في الموصل، وكشف التقرير عن تعرّض فارّين من المناطق الخاضعة لتنظيم "داعش" الإرهابي بالعراق، للتعذيب والاختفاء القسري والإعدام نفذتها الميليشيات والقوات الحكومية.
من جهتها، تعهدت الحكومة العراقية بمحاسبة كل من يثبت عليه اقترافه مثل هذه الانتهاكات، لكن واقع الحال ينبئ بعدم جدّية الحكومة في تنفيذ وعودها بمحاسبة من يقوم بتلك الانتهاكات خلال المعارك التي خاضتها ضد تنظيم "داعش" سابقاً.
كما دافعت الحكومة العراقية وبشدة عن مشاركة ميليشيا الحشد الشعبي الشيعي في هذه المعركة، بسبب الإصرار الإيراني على هذه المشاركة، ذلك لأن الحكومة العراقية واقعة بين إرادتين متضادتين في هذا الشأن، فمن ناحية تصر إيران وقادة الميليشيات على مشاركة "الحشد"، ومن الناحية الأخرى ازدياد عدد الرافضين لهذه المشاركة؛ لذلك، قامت الحكومة العراقية باتخاذ عدة تدابير لتجاوز ذلك الرفض، فقام العبادي بإلحاق ميليشيا الحشد بالجيش العراقي، لتتم معاملتها كجزء من الجيش.
كما -ومع اقتراب ساعة الصفر لبدء معركة الموصل- أعرب كل من وزيري الخارجية التركي والسعودي عن مخاوفهما الشديدة من مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي في معركة الموصل، وذلك خلال مشاركتهما في اجتماع الرياض الذي ضمَّ وزراء الخارجية الخليجيين بالإضافة إلى تركيا، والذي عقد أساساً لمناقشة موضوع معركة الموصل.
إلا أن أشرس معركة دبلوماسية جاءت هذه المرَّة مع تركيا، التي أصرت على الاشتراك في عمليات تحرير الموصل، الأمر الذي رفضته الحكومة العراقية جملة وتفصيلاً وبدفع إيراني؛ بل وأصرت على أن تسحب تركيا قواتها الموجودة في معسكر بعشيقة وباقي القواعد التركية في شمالي العراق، والتي يقدر تعدادها بـ2000 مقاتل.
وعلى أثر زيارة وفد تركي لبغداد للتباحث في موضوع وجود القوات التركية بالعراق وموضوع مشاركة تركيا في معركة الموصل، رفض العبادي أي مبادرة من شأنها أن تسمح لتركيا بهذا، وصعّد من لهجة انتقاده تركيا.
إلا أن وزير الدفاع التركي، فكري إيشك، أعلن فيما بعد، أنّ بلاده توصلت إلى اتفاق مع قوات التحالف الدولي، تُشارك بموجبه مقاتلات تركية في الغارات على مواقع تنظيم "داعش" الإرهابي ضمن إطار تحرير مدينة الموصل العراقية.
إن مشاركة القوات التركية البرية في معركة الموصل، تعني بالنسبة لبغداد وطهران، دخول تركيا كلاعب فاعل في العراق، وهذا ما يهدد سيطرة الشيعة الموالين لإيران في العراق، ويشكل منافسة جدية للنفوذ الإيراني فيه. كما أن هذا التدخل لا يُرجّح أن يكون مرحباً به حتى من قِبل بارزاني، الذي يريد استقطاع أراضٍ من الموصل وضمّها لكردستان تمهيداً لإعلان دولته المستقلة، الأمر الذي يتعارض مع توجهات تركيا في المنطقة.
المسارات المتوقعة لسير المعركة
على الرغم من أن هناك إرادة دولية وأميركية على إنهاء وجود "داعش" في مدينة الموصل تماماً، فإن هذا الأمر ربما لن يكون سهلاً وربما يتطور الأمر إلى مسارات لم تكن في الحسبان قبل أن تغادر "داعش" أرض الموصل.
المسار الأول
من المتوقع أن تدافع "داعش" عن الموصل بكل قوة، ما يجعل قوات التحالف تستخدم كل طاقتها التدميرية وتصبها على المدينة، عن طريق القصف الجوي والمدفعي، وسوف تكون عملية تطهير المدينة، عملية صعبة وتحتاج إلى أعداد كبيرة من القوات البرية لشن حرب شوارع على" داعش".
ولإنجاز هذه المهمة، يحتاج توافر قوات برية مدربة تدريباً عالياً، وهذا ما سيقوي فرصة الاستعانة بالقوات البرية التركية للمساعدة في هذه المهمة، ما يعني أن حرب الشوارع التي سوف تندلع فيها ربما يطول أمرُ حَسْمِها، وسيحدث تدمير للبنية التحتية كاملة داخل المدينة.
وفي الوقت نفسه، فإن هذا الدفاع المستميت من قبل "داعش" سوف يعطي للحكومة العراقية المبرر للاستعانة بميليشيات الحشد، ومن الممكن أن تتصادم تلك الميليشيات مع قوات أثيل النجيفي (حرس نينوى) المدعوم تركياً.
والذي يزيد احتمال وقوع هذا المسار، هو التراجع الذي حصل للقوات العراقية في اليوم الثاني للمعركة وعدم تحقيقها نصراً جدياً على "داعش"، وهذا ما صرح به أيضاً وزيرا الدفاع الأميركي والبريطاني والكثير من المحللين العسكريين الغربيين، حيث أجمعوا على أن المعركة ستطول.
أما المسار الثاني
ربما تفاجئنا "داعش" بانسحاب كلي من الموصل باتجاه الرقة السورية، وسوف يخلق هذا الانسحاب المفاجئ انطلاق سباق بين القوات المهاجمة على اختلافها، للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من المدينة، لكي تعزز موقفها التفاوضي مستقبلاً مع الآخرين، وسنرى بعد ذلك مدى جدية تنفيذ تلك الأطراف تعهداتها قبل المعركة، فمن غير المرجح أن تنسحب القوات الكردية إلى خارج الموصل بعد نهاية المعركة كما هو متفق مع بغداد، كما نشك في أن تلتزم الميليشيات الشيعية بعدم دخولها للمدينة، وكل هذا سوف يفجر صراعاً جديداً، وهذه المرة سيكون بين قوات أثيل النجيفي ومعه بعض المسلحين السنّة، ضد البيشمركة وقوات الحشد الشيعي.
أضف إلى ذلك، سوف يخلق الانسحاب السريع لـ"داعش" من المدينة باتجاه الرقة تدخلاً دولياً آخر، وهذا ما أعلنته روسيا حين قالت إنها لن تسمح لمعركة الموصل بدفع قوات "داعش" باتجاه الرقة السورية، وأنها سوف تتدخل عسكرياً لمنع ذلك.
كما أن انسحاب "داعش" إلى الرقة سوف يفاقم الأمور أيضاً على تركيا ويصعّب من جهودها لتحرير مدينة الرقة مثلما تخطط له تركيا حالياً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.