انهيار مجتمع “الأعيان التقليديين” في المغرب

في هذه الانتخابات الجديدة في المغرب يجب ألا يهتم الباحث بالنتائج النهاية فقط، بل يجب أن يهتم أساساً بالطريقة التي تصرفت بها الكتلة الناخبة، وكيف كان رد فعلها على كل فعل سياسي قامت به الإدارة المغربية لدفعه إلى اتجاه معين.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/19 الساعة 04:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/19 الساعة 04:27 بتوقيت غرينتش

واصل حزب "العدالة والتنمية" الاستفادة من لفظ المجتمع المغربي لـ"الأعيان التقليديين" وتحوله التدريجي إلى ثقافة سياسية مؤسساتية حديثة، وجاء على قائمة الأحزاب المغربية المتنافسة في ثاني انتخابات برلمانية (7 أكتوبر/تشرين الأول 2016) بعد "الربيع العربي"، الذي اكتسى صبغة محلية مغربية، والتي لا يمكن أن يتجاهل أي مراقب تأثّرها بما يجري في باقي دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط منذ سنة 2011، سواء كان إيجاباً أو سلباً، لكن في وسط مؤسساتي واجتماعي له خصوصيات محلية.

كنت قد كتبت قبل عام لـ"جريدة لكم" المغربية، ومباشرة بعد الانتخابات البلدية والجهوية، أن تلك المحطة أشَّرَت لما يمكن أن ننعته بـ"بداية أفول زمن الأعيان التقليديين في المغرب".

ويبدو من خلال نتائج الانتخابات البرلمانية الجديدة أن المجتمع المغربي مستميت فعلاً في وضع تاريخ هذا الفاعل السياسي والانتخابي وراء ظهره إلى غير رجعة، ولذلك دلالاته الكبرى ونتائجه السياسية العميقة التي يجب على النظام السياسي المغربي ككل أن ينصت لها، ويستجيب لها، ويعمل على التكيُّف مع واقعها الجديد.

ولكن لأن بعض الأحزاب السياسية لم تستوعب هذا التغيير الاجتماعي والمؤسساتي الكبير بشكل عميق، أو لم تأخذه بالجدية اللازمة، فقد دفعت ثمن رهانها على الأعيان التقليديين في الانتخابات الأخيرة.

أما حزب العدالة والتنمية الذي راهن على موظفي الطبقة الوسطى والفاعليين المدنيين والشباب حديثي العهد بالممارسة السياسية، الذين لم يكن لهم تاريخ انتخابي سابق، فقد تمكَّن من الاستفراد بزعامة المشهد السياسي بفارق يفوق 20 نائباً برلمانياً عن أقرب مقربيه، في ظل نظام انتخابي تقييدي يعاقب الفائز بأكثر الأصوات لفائدة مَن يحصل على أقل.

وهو نظام انتخابي مستحب في المراحل الانتقالية؛ كي لا يصل حزب واحد إلى الاستفراد بالسلطة والإخلال بالتالي بالتوازنات السياسية والاجتماعية في بلد في طور الانتقال.

لقد حاول "النظام القديم" بكل مؤسساته تقريباً أن يحافظ على توازناته، وأن يعيد إنتاج نفسه من خلال "حزب الأصالة والمعاصرة"، لكن الناخب المغربي قرر أن يذهب بعيداً في دعم حزب نشأ أساساً بدعم من منظمات المجتمع المدني -جمعيات مهنية وخيرية ودينية ونسوية- ويحمل خطاباً سياسياً مختلفاً، ويتوفر على قيادة تواصلية لا تهمل مخاطبة المواطن/الناخب إلى أن يحين وقت الانتخابات.

وعاقب في الآن ذاته أغلب "الأعيان التقليديين" و"تجار الانتخابات" و"المنتخبين القدامى" الذين كانوا جزءاً من المشهد البرلماني السابق.

إن "الأعيان التقليديين" يظهرون اليوم في المشهد الحزبي المغربي كأشكال كاريكاتورية تنال الاستهزاء ولا تؤخذ مأخذ الجد، ولا تستطيع أن تقدم أي مقابل عن الأصوات التي تطلبها من الناخبين.

في هذه الانتخابات الجديدة في المغرب يجب ألا يهتم الباحث بالنتائج النهاية فقط، بل يجب أن يهتم أساساً بالطريقة التي تصرفت بها الكتلة الناخبة، وكيف كان رد فعلها على كل فعل سياسي قامت به الإدارة المغربية لدفعه إلى اتجاه معين.

كما على الباحث أن يهتم أيضاً بقراءة ما تخفيه الإحصائيات العامة، وأن يقرأ بدقة كيف حصل كل حزب، وكل طرف سياسي، على ما حصل عليه من أصوات ومن مقاعد برلمانية.

لقد بدأت السلطة في التحضير لما بعد ما يسمى في أدبيات بعض الباحثين في العلوم السياسية بـ"حكومة الربيع العربي"، منذ أن كُلف عبد الإله بنكيران بتكوين حكومته يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2011.

وخلال السنوات الخمس الماضية لم تتوقف الآلة الدعائية والضربات الموجهة بعناية لأول حكومة منبثقة من انتخابات ذات مصداقية في تاريخ المغرب الحديث، لكن كل تلك الضربات باءت بالفشل، ويبدو الآن أنها قوَّت جبهة ممانعة عودة كلية للسلطوية إلى المشهد السياسي عن طريق الانتخابات التشريعية.

ولما بقيت بضعة أيام فقط على انتخابات 7 أكتوبر 2016، تبين بالملموس للناخب المغربي، الذي لا يمكن الاستهانة بذكائه، مدى الضغط والمؤامرات التي تتعرض لها هذه التجربة الحكومية الجديدة، ودفعه ذلك بالتالي إلى التشبث بها أكثر من أي وقت مضى.

بعد يوم الاقتراع تفاجأت السلطة والإدارة بحجم الدعم الانتخابي الكبير الذي حظي به "حزب العدالة والتنمية"، باعتباره الحزب الذي بقي في مواجهة السلطوية بصدر مفتوح نسبياً مقارنة بباقي الأحزاب المغربية، ومنذ صدور النتائج الأولية من صناديق الاقتراع، خصوصاً في المدن الكبرى، تبين للمتتبعين أن "حزب الأصالة والمعاصرة" الذي تعول عليه الدولة لمواجهة، ليس فقط "حزب العدالة والتنمية"، ولكن أساساً لتحجيم النتائج المباشرة لـ"الربيع العربي" على المشهد السياسي المغربي، تبين أنه أبعد من أن يصل لتحقيق ذلك الهدف.

بعد ظهور النتائج الأولية، تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الناخب المغربي عاقب الدولة على خلقها لـ"حزب الأصالة والمعاصرة"، وذهب عكس طموحاتها من خلال التصويت للحزب الآخر الذي يراه الأقرب إليه من حيث تكوين مرشحيه -أغلبهم طبقة وسطى، وموظفون، ورجال سياسة معروفون يجيدون التواصل- ونظافة حملته الانتخابية وتقديره للمواطن واحترامه لذكائه الاجتماعي والسياسي.

لقد حاول "الأعيان التقليديون"، سواء في صفوف "حزب الأصالة والمعاصرة" أو غيره من الأحزاب الإدارية القديمة، مسايرة السرعة المرتفعة الذي بدأت تتغير بها السياسة في المغرب، لكن بقية من نجح منهم في العودة لبرلمان 2016 جاء متأخراً جداً عن مترشحي الطبقة الوسطى والموظفين، وكان وصول أغلبهم إلى المقاعد النيابية يأتي دائماً بعد احتلالهم المراتب المتأخرة في كل الدوائر، وتشكل النتائج الانتخابية لحزب "الأصالة والمعاصرة" دليلاً على حجم المعاناة التي أصبح يواجهها هذا المكون الريعي في وُلوجه للمؤسسات المنتخبة.

من خلال نتائج هذه الانتخابات المهمة في تاريخ المغرب السياسي الحديث، التي تجري في ظل دستور منح المغرب نقطتين كاملتين على مستوى مؤشر "اتجاه السلطوية" الذي يعده خبراء "Polity IV Project" نستنتج بوضوح أن الناخب المغربي يود أن يضع حداً لماضي بلاده السياسي المؤثث بـ"الأعيان التقليديين"، ويسير في اتجاه العبور بيقين إلى دولة المؤسسات الحديثة التي ستقوي في الأخير ديمقراطيته الوليدة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد