تدرك الطبقة السياسية الحاكمة والنخبة الإعلامية المرتبطة بها، التي تشكّلت بعد الاحتلال الأميركي للعراق، أنها لا يمكنها الحفاظ على مكاسبها التي اغتنمتها بعد 2003 إلا بالحفاظ على استمرار تعبئة الشارع تعبئة دينية وتهييج المشاعر المذهبية.
نقل أحد المواقع الإخبارية، ضمن تغطية لأحد برامجه الإذاعية، تصريحاً عن مقاتل في الحشد الشعبي؛ حيث عبّر هذا المقاتل عن رأيه في المناطق التي قاتل فيها، والتي كانت داعش تسيطر عليها، قائلاً: "كنت أعتقد أن تلك المناطق كلها دواعش، وما تأخذنا بهم لومة لائم.. ولكن لما وصلنا وجدنا الناس هم المتضررين".
يصعب أحياناً تفسير دوافع هذا المقاتل؛ لكي يقول هذا الكلام من دون تفسير أو توضيح أساليب التدعيش التي يتم تداولها إعلامياً لتسقيط وشيطنة الخصوم والمعارضين السياسيين، ومن دون مراجعة لكيفية نشوء هذه الظاهرة أيضاً.
تبدأ الحكاية بالمغالطة -التي يراد لها أن تحكم في بلد مثل العراق- والتي لا يمكن أن تصدّق وهي: أنه في ظل منظومة حكم أيديولوجية متطرفة -قومية أو مذهبية- يمكنك أن تكون وطنياً.
ينخدع الجمهور بالحرفية العالية والبهرجة المبهرة التي تُظهرها تقنيات الإعلام الحديث، والتي يتستر بها طائفيو الفضائيات ونجوم التوك شو.
فيما تنحصر في مخيلة المشاهد الصورة النمطية للمتشددين بأشكال وهيئات معروفة في الإعلام؛ لتغيب عن ذهن المتلقي أن الهدف من كل تلك البهرجة هو خداع المشاهد وإغواؤه من جهة، وشرعنة أجواء التدعيش التي تقوم على استغلال مخاوف العراقيين من داعش، لإحراز مكاسب سياسية ضد المعارضين -سواء المشاركون في هذه العملية السياسية البائسة أو الممانعون لها- من جهة أخرى.
حيث استطاعت بعض تلك الفضائيات فيما بعد، بفضل سدنة الإعلام الطائفي وبدعم ورعاية من قِبل النخبة السياسية الحاكمة، تطوير أساليب التدعيش لسكان تلك المناطق، بالغمز واللمز والاستعارة والكناية، والغاية هي إيجاد مخرج للهروب يجنبها الأساليب الطائفية الصريحة والمعروفة والمكشوفة للمتلقي ذي الحس العميق.
لهذا من أقبح ما تسمع من تدليس في أساليب التدعيش:
- – "لسنا ضد أهل السنة، نحن ضد داعش السنية".
- – "نحن والسنة لسنا أعداء، بل الأعداء هي الأحزاب السنية".
- – "ليس هذا استهدافاً ضد سياسيي السنة، بل هو ضد دواعش السياسة".
ألا تعتقد معي أن القصف الجوي والقصف الإعلامي، وصناعة الموت وصناعة الأجواء، ليست مختلفة كثيراً؟
لهذا لا داعي للاستغراب من تصريح هذا المقاتل المضلل والمعبأ والمشحون طائفياً بفعل إعلاميين سخّروا كل طاقاتهم لتدعيش سكان تلك المناطق، فدعشنة السنة جديدة في المسمى قديمة في المضمون، فقبلها كانوا نواصب بعثية وهابية وقاعدة واليوم دواعش، تحت هذه العناوين قتل الآلاف من العراقيين، وشُرد وهُجر الملايين، فيما يغيب عن البال أن مصيبة السُنة مع داعش هي أكبر من مصيبة غيرهم معها.
بالمقابل لا يمكن تبرئة ما يمكن وصفه بالإعلام المضاد وإسقاطاته على المجتمعات السنية؛ لأن بمجرد أن تقع مأساة في مدينة شيعية سترى "إعلاميين سنة" يعممون ويبررون ضمنياً بالطريقة نفسها أيضاً.
ولنتذكر بعض الكلمات مثل "غوغاء روافض كلهم ميليشيات" و"انتو صوجكم انتخبتوهم".. إلخ.
هذه أمة يتشابه طائفيوها في كل شيء، نسوا كل شيء، وانشغلوا بنهش أجسادهم، أمة تتقاتل لتحديد الفرقة الناجية، فتهلك كل فرقها ولا ينجو أحد، أمة يسخر منها العالم كله ويشمت -سواء كانت شيعية أم سُنية- نحن في بلد قد شب فيه نار وحرائق، نحن أمام مستحيلات وممكنات، بين مستبدين متماسكين حتى الآن، وجزء من الحل هو في استيعاب أن حريق العراق قد يتحول إلى المنطقة بأسرها، وأن الجميع أصبح غير بعيدٍ عنه بالفعل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.