نداء الراحلين إلى السماء!

لم يتخيّل يوماً أنّ جسده سيكون خيطاً في سَرج حرية الوطن، أو أنّ دمه سيسكب في سراج قنديل؛ ليزيح عن الأقصى عتمةً جثمت على قبابه ومآذنه

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/13 الساعة 02:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/13 الساعة 02:53 بتوقيت غرينتش

تتقلّب في ذاكرته الموجوعة مشاهد حروب مروعة وإعدامات ميدانية، نُفذت بدم بارد لشُبهٍ واهية، وقتل دون أدنى سبب، وتنكيل وتضييق وحصار، ومداهمات متكرّرة لبيوت الآمنين، تحوّلها إلى خرائب، وتعيث فيها فساداً، بعد أن كانت دافئةً هانئةً بمن فيها، واعتقالات تزج الشباب إلى غياهب السجون ومتاهات الحبس الإداري البغيض، بلا ذنب أو جرم مسبق، وجرائم ضد الإنسانية يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.

وتحتدم في صدره مشاعر الذل والهوان الذي يلاقيه أبناء مدينته على الحواجز العسكرية الإسرائيلية المغروسة في كبد المدينة، كورم خبيث يتحكّم فيهم وضيع، لا وزن له بين مقامات الرجال، وتمرّ مثل شريط سينمائي أمام عينيه أيام طفولته التي قضاها في البساتين والأحراش الفلسطينية التي سيطر عليها الاحتلال ظلماً، وصادرها بقوة السلاح والدم، لصالح قطعان المستوطنين الذين لملمهم من أصقاع الأرض؛ ليقتلع بهم حق العودة، ويصادر بوجودهم أيّ أمل متبقٍ بإقامة دولة فلسطينية.

لم يكن الموت غايته، ولا الانتقام شاغله، ولا الثأر سبيله، فله من الطموح حصته، ومن أهداف المستقبل نصيبه، وقد غدا على بُعد أشهر معدودة من التخرّج في الجامعة، ويمهد لنفسه الحصول على وظيفةٍ مرموقةٍ وحياة زوجية مستقرّة، ولم يتخيّل يوماً أنّ جسده سيكون خيطاً في سَرج حرية الوطن، أو أنّ دمه سيسكب في سراج قنديل؛ ليزيح عن الأقصى عتمةً جثمت على قبابه ومآذنه، فجرائم الاحتلال الصهيوني وتجرؤه على دماء الفلسطينيين حرّضته على أن يتنازل طوعاً عن حياته، لأجل حرية وطنه وكرامة شعبه، فالحرية خير وأبقى من حياة الذل، ومن العيش تحت وطأة احتلال مجرم متجبّر.

يتمتم إن لم يكن من الموت بدٌّ فمن العار أن تموت جباناً، يردّدها مطروباً بها كأغنية من أغاني الحب والهيام، يلقي نظرة أخيرة على مدينته التي تغرق في الظلام الدامس، كأنها قاع بئر خاوية تفوح منها رائحة القهر والمعاناة، وترتفع من بين جنباتها مآسٍ لا تقل ضراوة عن مآسي القرون الوسطى، يأكلها الفقر ويستنزفها الإهمال والتجاهل المتعمد لمرافقها وشوارعها وأحيائها، وخدماتها تئن من حملها الثقيل، لكنها تكافح بكلّ ما تيّسر لها في سبيل الصمود وتعاند الانكسار أمام إرادة العدو، في حين تلمع مستوطنات صهيونية مجاورة بالأضواء البهية، وتتوّفر فيها كل الخدمات والعناية والمتابعة وسبل الراحة والعيش الكريم على حساب الإنسان الفلسطيني المقهور.

يغازل السماء بنظرة من رجاء، يبتسم.. يتنهد.. يغني للوطن، للأم، للحبيبة، للجنة، للأيام الخوالي، لأحلام الصبا، لسمر الأصدقاء، لغده الذي يستحيل حضوره، ولحياة شعب بعيدة المنال، ولكلّ شيء له معنى، ينادي بصوت صاخب، مرّة، مرّتين، ثلاثاً، يقرأ فاتحة الكتاب ويمضي.

تزحف على وسائل الإعلام أخبارٌ عاجلة عن عملية بطولية جريئة على حاجز عسكري إسرائيلي، ويتردّد في أرجاء الوطن صوتٌ صاخب ينهمر انهمار الغيث، يسعى من بيت إلى بيت، ويطرق الأبواب الباب تلو الباب، ينادي: هذا سبيلي إن صدقت محبتي، فاحمل سلاحي.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد