من طبيعة الإنسان حب الاستعجال، والعجلة، وتشوقه الشديد، ورغبته التواقة أن تمضي الأيام بسرعة، وخصوصاً إذا كان في ضيق، وشدة، وبؤس ومعاناة، وألم! وهذا ما عبَّر عنه الله تعالى في كتابه الكريم: "خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ"، "إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً".
والسوري، في هذه الأيام، هو أكثر الناس استعجالاً، وتشوقاً، ورغبة جامحة لانقضاء الأيام بسرعة، وعجلة، ومعرفة ماذا سيحصل، بل رؤية ماذا سيحصل في قادم الأيام؛ لما يعانيه من آلام، وأوجاع، وأحزان، ومآسٍ، تعجز عن حملها الجبال الراسيات!!!
ولكن.. للحقيقة المجردة، التي يجهلها كثير من الناس، بل ويحاولون جهدهم أن يتعاموا عنها، وينسوها تماماً، بل ويمسحوها من ذاكرتهم، هي: أن الأيام القادمة ستكون أدهى وأمر، إنها ستكون أشد مرارة من العلقم، إنها ستكون أياماً دامية، أكثر دموية مما هي عليه الآن، وسيكون فيها التوحش أكثر مما عليه الآن، وسيزداد أوار الحرب، حتى يصل لهيبها عنان السماء، ويجاوز الجوزاء، لا أقول هذا الكلام للتيئيس، والتقنيط، وإشاعة الاكتئاب، والإحباط، والهزيمة في النفوس، ولا رجماً بالغيب، ولا معرفة بالتنجيم، وأخواته، معاذ الله، بل أنا أكثر الناس تفاؤلاً، ويقيناً بأن النصر قادم لا محالة، وأن المستقبل للإسلام، لا شك في ذلك، ولا ريب.
ولكن أولاً: قراءة الواقع الميداني تشير إلى أن العالم بأجمعه أخذ يتعرى أكثر، ويظهر حقده الدفين للإسلام، وللثورة، علماً بأنه كان متعرياً منذ بداية الثورة، ولكن ما كان يكشفه إلا أولو الألباب، أما الآن فقد أصبح ظاهراً للبسطاء والسذج من الناس، وأصبح تعريه من باب الاستخفاف بالناس، وكأنه يريد أن يقول لهم:
ألم تفهموا حتى الآن نياتنا وأهدافنا؟!
ألم تفهموا أننا نريد أن ندمركم، ونسحقكم، ونقضي عليكم؟!
لا نريد أن نرى وجوهكم ولا نسمع تكبيراتكم ودعواتكم لربكم، إننا نكرهكم، أنتم، ودينكم، وثورتكم، وربكم، "وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحدَهُ اشمَأَزَّت قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إذا هُم يَستَبشِرُونَ"، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، من باب الوقاحة، والصفاقة، والاستكبار، والطغيان، والغرور، إنهم أصبحوا يقولون بشكل واضح: لا نقبل بحكومة مسلمة، متدينة، تريد تطبيق الشريعة الإسلامة، ولا حتى حكومة مسلمة، غير متدينة، وطنية، ديمقراطية، ولا حتى حكومة علمانية، وطنية، ديمقراطية، حرة، مستقلة، لا تخضع لنا.
نعم لحكومة أقليات، نصيرية، شيعية، نصرانية، تخضع لنا، وإلا: ستأخذ عمليات التصفية، وكسر العظم، واستخدام كل الأسلحة التي استخدمت، والتي لم تُستخدم بعد، للقضاء المبرم على الإسلام والثورة، وجميع الفصائل المقاتلة، سواء المصنفة -حسب معيارهم- معتدلة، أو إرهابية، علماً بأنهم أصلاً لا يؤمنون بوجود فصائل معتدلة -كما صرحوا مرات كثيرة- وإنما كلها في نظرهم إرهابية.
ثانياً: دائماً الإفراط في أي شيء، والغلو فيه ينقلب إلى ضده، فالإفراط في التفاؤل، والأمنيات، والتمنيات، والأحلام، وترقب حدوث النصر بعد أيام، أو أشهر قليلة، ينقلب إلى ضده، ويولد في النفوس، الإحباط، والتشتت، والتمزق، والهزيمة الداخلية، فها هو الفرح الشديد، الذي حصل عند الناس، عقب فك الحصار عن حلب، والذي اعترضت عليه يومها بشدة، وهاجمني بعضهم وقال: دع الناس يفرحون، إنهم لم يفرحوا منذ زمن طويل، وكانت النتيجة أنه انقلب إلى ضده، وعاد الحصار من جديد، بل أقسى، وأشد مما سبق.
وثالثاً: حتى يأخذ الناس حذرهم، ويوطنوا أنفسهم لمرارة الأيام القادمة، ويستقبلوها بجلد، وقوة، وعزيمة لا تلين، وألا يتفاجأوا بها، فتعرُكهم عرك الرحى بثفالها، كما قال زهير بن أبي سلمى في وصف الحرب:
فَتَعْرُكُكُم عرْكَ الرَّحى بثفالها ** وتَلْقَحْ كِشافاً ثُمّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
فالأيام القادمة ستكون شديدة الوطأة، حامية الوطيس، كريهة الكرب، متأججة اللظى، مدلهمة السواد، آلام المخاض، مبرحة، ثقيلة، ورهيبة، وعنيفة، لأن ولادة الحرية لا تزال متعسرة، ولا تزال في الرحم، تتخبط، وتموج، وتمور، وتحاول أن تشق طريقها عبر قناة الولادة، لتخرج، ولكن لم يُفتح حتى الآن من الرحم إلا مقدار إصبع واحد غير كافٍ لولوج المولود عبر عنق الرحم، ولا يزال الصريخ، والعويل، والبكاء، والنحيب، هو سيد الموقف، ولا تزال عضلات عنق الرحم، صلبة، قاسية، متشنجة، لا تلين، ولا تتمدد مع طلقات المخاض المتكررة، والعملية القيصرية خطرة جداً.
ولا بد من الانتظار طويلاً، حتى يتوسع عنق الرحم أكثر، أو تزول مخاطر العمل الجراحي، المخاض عسير، ومرير، ومؤلم؛ لأن المولود، "الحرية"، كبير، وذو شأن عظيم، إنه مولود استثنائي، متميز، فريد، وعظيم، ليس كأي مولود، إنه يحمل بإحدى يديه مشاعل النور، والضياء، والهناءة، والسرور للإنسانية جمعاء، ليبدد جيوش الظلام، ويحمل باليد الأخرى سيفاً صارماً، بتاراً، ليكسر الأغلال، ويحطم القيود، ويقطع أصفاد العبودية، لغير رب العالمين، ويقهر الطواغيت، ويُعيد العبيد للعبودية لرب العبيد.
وليتحقق على أرض الواقع قول الفارس "ربعي بن عامر" الذي خاطب "رستم" قائد جيش الفرس، حينما سأله الأخير: لماذا جئتم إلى بلادنا، وأنتم الذين كنتم عبيداً لنا، وخدماً عندنا؟ فقال ربعي، بكل عزة، وإباء، وشموخ: "الله ابتعثنا، لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.