الباص الأخضر.. وسيلة قلع جذور عامة!

بعد الثورة السورية ضد نظام الأسد عام 2011، تغيّرت الكثير من المفاهيم، وانقلبت قناعات وتقاليد وعادات كثيرة، كما تمّ تحميض صور نمطية جديدة، غير التي بقيت كثيراً في ذاكرة السوريين الجمعية، منها، باص النقل الداخلي الأخضر.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/04 الساعة 02:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/04 الساعة 02:40 بتوقيت غرينتش

لا يُنسى ذلك اليوم، بوجوه الركّاب وكثرتهم في باص النقل الداخلي الأخضر، كنت في الثامنة من عمري، تُهت عن يد أمي، وافترقنا لدقائق، شعرت أنها سنوات، وجوه المارة خلال رجوعي من مقدمة الباص إلى آخره، كانت كسيل من الطين المتدفق السميك، حاولت السباحة عكس التيار، "أريد أمي"، طلبٌ ظللت أردده حتى نزلت من الباب الخلفي للباص، فوجدتها تبحث عني، عانقتني كأنها ولدتني للتو وأخرجتني للحياة من رحمِها.

في عام 1994 كانت باصات النقل الداخلي الخضراء، من أبرز معالم العاصمة دمشق، سعتها كبيرة، رخيصة جداً! فتكلفة الصعود بها تقدر ببضع ليرات، تمشي مسافات طويلة، مخصصة لمن لا يستطيعون ركوب سيارات الأجرة، والعراك مع سائقيها إن شغّلوا عداد النقود أو لا! ظلّت مرتبطة بصورة الدولة، التي تقدّم خدمات شبه مجانية للشعب الفقير، وتحمّله "منيّةً" كبيرة!

معظم سكّان دمشق من الطبقة الوسطى والفقيرة، لهم ذكريات كثيرة في تلك الباصات، قصص عشق ولحظات لقاء بين أشخاص لم يروا بعضهم منذ زمن، كانت مقاعدها دفاتر للذكريات، قبل أن تختفي أواخر التسعينات، وتتحوّل فقط إلى باصات لنقل العاملين في المؤسسة العسكرية، والمنتمين إليها، ورويداً وريداً تحوّلت الصورة النمطية لتلك الباصات، من مراكب للمدنيين، إلى وسائط نقل للعسكر!

وبعد اختفاء قسري في مرائب الدولة، عادت تلك الباصات إلى العمل في حقبة حكم بشار الأسد لسوريا، في بدايات الألفية الثالثة، وإن بحلّة وصفقة جديدة، أكثر حداثة، وأصغر حجماً، لكن الخارج لم يعكس الداخل، فتلك الباصات وإن كانت مملوكة لشركات خاصة، بقيت أمكنة لتكديس الركّاب، ومحفلاً لكثرة الوجوه المُتعبة من ازدحام العاصمة.

أذكر في الفترة بعد عام 2005 الكثير من التفاصيل في تلك الباصات، وخصوصاً "الدوار الجنوبي" الذي كنت أتنقل فيه من منزلي في كفر سوسة إلى كليّة الآداب بالمزة. كان أخضر، مكتظاً دائماً، وكل عدة كيلومترات يصعد إليه المفتش، الذي يبحث عن المخالفين من الركاب، ليرفع في وجههم الكارت الأصفر، "أعطني 25 ليرةً سورية؛ لأنك مخالف ولم تقطع أجرة الركوب"، يقول للمخالفين.

كانت وجوه معظم المفتشين بائسة، كالحكومات السورية المتعاقبة خلال حكم حزب البعث للبلاد منذ انقلابه عام 1963، كانوا يتصيدون الركاب المخالفين، لا يميّزون بمن يخالف؛ لأنه لا يملك المال ومن يخالف لقصد سرقة الدولة، كلهم سواسية في عرف المفتشين، الذين استطاعوا فرض المساواة بين المواطنين أكثر من الحكومات السورية!

بعد الثورة السورية ضد نظام الأسد عام 2011، تغيّرت الكثير من المفاهيم، وانقلبت قناعات وتقاليد وعادات كثيرة، كما تمّ تحميض صور نمطية جديدة، غير التي بقيت كثيراً في ذاكرة السوريين الجمعية، منها، باص النقل الداخلي الأخضر.

هكذا ومع سابق الإصرار، أصبح الباص الأخضر وسيلة لنقل مؤيدي النظام الذين حملوا أسلحة متنوّعة للهجوم على المتظاهرين، وأيضاً، مركبة لنقل أولئك المتظاهرين إلى أقبية المعتقلات، ولم يعد وسيلة لنقلهم إلى جامعاتهم، أو بيوتهم، أو أي مكان آخر.

ويبدو أن أصعب ما في الأمر، وأكثر المشاهد قسوة، أن ترى الباصات التي يُفترض أنها لخدمة طبقات المجتمع الفقيرة، تنقل مسلحي تنظيم "داعش" الإرهابي من الحجر الأسود بريف دمشق، إلى شمال سوريا تحت حماية النظام السوري والأمم المتحدة، وأن تتابع على شاشات التلفزة، بحسرة وحرقة، باصات تبدو مطية لاتفاقيات النظام المفروضة على أهالي داريا والمعضمية والوعر الحمصي، لتهجيرهم من بيوتهم، في رحلة قد يكون خط العودة فيها شبه مستحيل!

تختلف الذكريات، بين القاسية والأكثر قسوة، لكن، أصعب وأقسى الصور، آخرها، المأخوذة أمام أعين العالم أجمع لاقتلاع جذور سوريين من أرضهم.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد