دعونا نتحدث عن الحرية والديمقراطية على حقيقتهما في العالم الحقيقي.
1- الحرية
إذا كنت أحد سعداء الحظ، وكانت لديك وظيفة ثابتة بدوام كامل، فأنت تمضي على الأقل ثماني ساعات يومياً وأنت تعمل داخل منشأة ما، فإذا أضفت إلى هذه الساعات الثماني الوقت الذي تمضيه في الانتقال من وإلى العمل، فسيصبح يومك كله بهذا الشكل ملكاً لوظيفتك!
أما داخل نطاق المكتب الذي تعمل به، فإن لم تكن أنت صاحب العمل، فإن دورك ومهامك وقوانين وأسس مكان العمل يقوم بإملائها عليك جميعاً رب عملك، فهو الذي يحدد متى تأكل، ومتى تتناول فنجان القهوة، وفي أحيانٍ كثيرة هو الذي يحدد لك ماذا ترتدي، ومع من تتعامل أثناء العمل.
ويحدد كل شيء آخر يدخل ضمن نطاق سياسة الشركة، أما هذه السياسة فالذي يحددها هو العضو المنتدب وطاقم الإدارة العليا الذي يتشكل من أعضاء مجلس الإدارة.. الشركة إذاً في جوهرها ما هي إلا مؤسسة شمولية، وأنت مجبر على أن تمضي أغلب حياتك داخل شَرك قيودها!
وطبيعي أن هذه الشركة هي التي تحدد أيضاً دخلك، ودخلك هذا هو الذي يحدد كل ما يدخل ضمن نطاق قدرتك من أمور مثل: مكان معيشتك، ونوعية طعامك، والأماكن التي ستعلم فيها أبناءك، ونوعية الرعاية الصحية التي سيكون في وسعك أن تتحملها أنت وأسرتك في حالة المرض، فدخلك هو الذي يحدد نوعية حياتك ووضعك الاجتماعي كما سيؤثر بشكل كبير على مستقبل أبنائك، وبالتالي فالشركة هي التي تحدد لك مواعيد عملك وجدولك اليومي، ووقت فراغك، وحتى عدد الأيام التي سيكون مسموحاً لك فيها أن تمرض كل سنة بدون أن يؤثر مرضك هذا على رزقك.
2- الديمقراطية
فالنظام الشمولي لشركتك يمتد بشكل أو بآخر في مناطق أخرى كثيرة من حياتك، فإذا كنت موظفاً عادياً فهذا يعني أنك لن تكون لك أي كلمة في أي من هذ الأمور، لأن الأعمال التجارية ليست ديمقراطيات، وقد يكون المفيد أن نشرح هنا سريعاً شيئاً عن الهيكل التقليدي للشركات، وبما أن جميع القرارات المؤثرة في أي شركة كبرى يتخذها أعضاء مجلس الإدارة (عادة من 12 إلى 15 شخصاً)، فهم يختارون الإدارة ويحددون استراتيجية العمل التي هي ببساطة شديدة: ماذا، وكيف، وأين ستعمل هذه الشركة.. إلخ.
فأعضاء مجلس الإدارة يتم اختيارهم غالباً من قِبل المساهمين في الشركة فكل مساهم له صوت واحد في مقابل كل سهم يمتلكه، وبشكل أساسي هذا يعني أن صاحب أكبر عدد من الأسهم هو الذي يختار المجلس وهذا المجلس هو وحده مسؤول قانوناً أمام المساهمين (لا أمام الموظفين ولا أمام العملاء) ومسؤوليته هذه باختصار شديد ما هي إلا ضمان توفير الأرباح.
3- الأرباح
أرباح الشركات يتم تقسيمها على المساهمين في شكل كوبونات (حصص) وفقاً لعدد الأسهم التي يمتلكها كل مساهم.
فالموظفون يؤدون العمل ويحققون الأرباح ولكن ليس لديهم أي دور في القرارات الخاصة بالعمل الذي يقومون به كما لا توجد لديهم أي حصة في الأرباح التي يحققونها، فليس لديهم أي أصوات عندما يتم تعيين أعضاء مجلس الإدارة ولا يوجد لديهم أي أصوات ضمن المساهمين.
كما ترون، كل جانب تقريباً من جوانب حياتكم الخاصة واليومية يكون عُرضة لإملاءات الشركة التي يعملون بها بهدف إثراء مساهمين لا يوجد لديهم أي التزام أو مسؤولية قانونية حيالكم أو حيال منفعتكم، ولا أي نوع من أنواع المساءلة.
أسئلة مشروعة
أما بعد هذه الحقائق كلها أليس من المناسب أن نتساءل عن المعنى الحقيقي للديمقراطية السياسية في حياة معظم الناس؟ ويصبح هذا السؤال بالغ الأهمية عندما نتحدث عن الأثر الأعمق لسطوة الشركات على المجتمعات، أو بمعنى أدق تأثير المساهمين على المجتمعات من خلال أنظمة عمل الشركات!
4- سيطرة
فمن خلال القرارات الاستثمارية على سبيل المثال ومن خلال استراتيجيات العمل يستطيع المساهمون من خلال شركاتهم الكبرى أن يقرروا بأنفسهم ما هي المجتمعات التي ستستمتع بالتنمية دوناً عن غيرها، وتلك التي ستحصل على وظائف دوناً عن غيرها أو تلك التي ستحظى بخدمات دوناً عن غيرها وهكذا.
فتح أو غلق مصنع من المصانع مثلاً قد يتسبب في إحياء مجتمع أو القضاء على غيره، فهذه القرارات تؤثر على قيمة العقارات وأسعار الإيجار وعلى تخطيط المدن نفسها، وحتى بدون ممارسة أي ضغوط سياسية نشطة، فإن الحكومات المحلية على مستوى الأحياء أو المحافظات مثلاً تكون واقعة تحت وطأة قدرة الشركات الكبرى في التأثير على الأوضاع داخل دوائرهم الانتخابية.
إن سطوة الشركات الكبرى على السياسات تعتبر هائلة لا لشيء إلا بسبب القوة الاقتصادية التي يمثلونها ويبذلونها.
في الولايات المتحدة الأميركية كمثال من الطبيعي أن تجد إحدى المحليات تتنافس مع أخرى من أجل إغراء شركة بأن تفتح منشأة لها في إحدى الولايات بهدف خلق فرص عمل وبهدف التنمية، ومن أجل جذب الشركة تقوم الإدارة المحلية بعرض جميع أنواع الحوافز مثل: امتيازات الأراضي، الإعفاءات الضريبية، أفضليات عند تقديم العطاءات للحصول على عقود مع الدولة.. إلخ، وفي الغالب هذه الامتيازات ستحتوي أيضاً على مكافآت غير رسمية مثل التنازلات الإجرائية في معايير حماية البيئة وسلامة العمال وبعض الوعود بأن القوى العاملة ستكون بأجور أقل من أي عمال آخرين في أي ولاية منافسة أخرى.
وبهذه الطريقة كما ترون، فإن المساهمين "من خلال شركاتهم" يكون في إمكانهم أن يجعلوا المحليات والحكومات طوع أيديهم بدلاً من أن يكونوا طوع أيدي الناخبين، لكن يبدو أن هذا لا يكفيهم، إذ إن الشركات تمارس ضغوطاً مباشرة على أو ضد السياسات المختلفة من خلال بذل المزيد من الضغوط والتبرعات ذات التوجه السياسي، فمنذ آخر انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة وصل إنفاق الشركات على المناورات السياسية ما يقرب من إجمالي 26 مليار دولاراً، وهذا لا يشمل المساهمات المالية التي يقدمونها لأحزاب أو لمرشحين بعينهم.
والنتيجة؟
السطوة الاقتصادية للمساهمين تؤثر بالتالي على حياتنا ليس فقط على المستوى الشخصي ولكن أيضاً على المستوى السياسي، فهم لا يسيطرون فقط على أحوالنا اليومية ولكنهم أيضاً يسيطرون على دور الحكومة في عملية صناعة القرارات نفسها.
تقريبا 10% من السكان يمتلكون 90% من إجمالي أسهم الشركات الكبرى، أي أن 10% من السكان يمارسون قدراً لا مثيل له من السيطرة على حياتنا اليومية وكذلك يتحكمون في حكوماتنا بدون أي نوع من أنواع المساءلة الديمقراطية، فقط وحصرياً من أجل مصالحهم الشخصية المادية.
حري بنا أن نسأل أنفسنا عن معنى الحرية والديمقراطية في ظل هذا النظام من سلطة القطاع الخاص، كما حري بنا أن نسعى إلى تطوير آليات قادرة على تمكين المواطنين بحيث نرد إليهم مرة ثانية حقهم في أن يكون لهم بعض القول في تحديد ظروف حياتهم وسياسيات حكوماتهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.