وعد بلفور أو تصريح بلفور المعروف أيضاً بوعد من لا يملك لمن لا يستحق، وذلك بناء على المقولة المزيفة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض تطلق على الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين..
فلسطين التي كانت عبر التاريخ محل اهتمام اليهود ومحط أنظارهم، منذ أن تسربوا إليها بعد خروجهم من مصر وهم يحاولون أن يربطوا أنفسهم بهذه الأرض ويحاولوا بشتى الوسائل أن يكون لهم موطئ قدم فيها، وكتب اليهود التاريخية وعلى رأسها التوراة تتحدث بكل صراحة أن بني إسرائيل عملوا جاهدين حتى يؤسسوا لهم في فلسطين مجتمعاً يرقى إلى مستوى الدولة، تكون إقامتهم فيه دائمة، عوضاً عن الترحال والتنقل، ولأن اليهود بطبيعتهم يمتلكون نفسية عدائية واستعمارية لم يكن مرحباً بهم في المنطقة أبداً على عكس الشعوب التي أتت إلى فلسطين، واختلطت مع السكان الأصليين الكنعانيين وغيرهم، وحتى التحرير البابلي اقتصر على اليهود فقط، ولم يشمل سكان فلسطين الأصليين، وهذا إنما يدل على أن اليهود لم يكونوا عبر التاريخ موضع ترحيب، بسبب بغضهم لغيرهم وإثارتهم للفتن.
قبل وعد بلفور كان الحديث عن إنشاء وطن قومي لليهود، ولم تكن فلسطين هي الخيار الأول المقترح رغم مزاعم الارتباط اليهودي بفلسطين، فقد كانت العريش في صحراء سيناء أحد المقترحات التي قدمها رئيس الوزراء البريطاني تشامبرلين، بينما اقترح بلفور أوغندا، إلا أن هذه المقترحات قوبلت بالرفض من المؤتمر الصهيوني السادس بدعوى أن أوغندا لن تجذب اليهود للهجرة إليها، تلا ذلك مجموعة من الخيارات شملت كندا، والأرجنتين، وجنوب إفريقيا إلا أنها قوبلت جميعها بالرفض من "خبراء" الصهيونية، ما يدفعنا للتساؤل حول إذا ما كانت فلسطين هي أرض الميعاد حقاً، فلا داعي ليتباحث أهل السياسة في أمر اختيار وطن محتمل من بين عدة دول، وما هي الأسباب التي دفعت الحكومة البريطانية لفعل ما فعلت لتحقيق هذا الهدف؟
وعد بلفور هو الاسم الشائع المطلق على الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد جاء هذا القرار ليغير كل شيء، فلقرون كثيرة لم يكن هناك مشكلة في فلسطين، بل كان الجميع يتعايش فيها بسلام، ففي سنة 1900 كان معظم سكان فلسطين من العرب، إذ شكلوا 95% مقابل 5% لليهود، ومع مرور الزمن وازدياد التواطؤ العالمي كانت شراسة الاحتلال تزداد بلا رحمة.
فمن فهو آرثر بلفور هذا؟
ولد آرثر جيمس بلفور بلفور سنة 1848 في ويتنغهام التي تعرف اليوم باسم لوثيان في أسكوتلندا، وبعد أن أنهى دراسته الأولية التي درس فيها تعاليم العهد القديم، أكمل دراساته العليا في كلية إيتون وجامعة كمبردج بإنجلترا، آمن بلفور كما أوضح في كتابه "العقيدة والإنسانية" أن الله منح اليهود وعداً بالعودة إلى أرض الميعاد، وأن هذه العودة هي شرط مسبق للعودة الثانية للمسيح، وأن هذه العودة الثانية تحمل معها خلاص الإنسانية من الشرور والمحن، ليعم السلام والرخاء مدة ألف عام تقوم بعدها القيامة، وينتهي كل شيء كما بدأ.
عمل وزيراً للخارجية 1916 – 1919 في حكومة لويد جورج، انتخب بلفور لأول مرة في البرلمان سنة 1874، وعمل وزيرا أول لأسكوتلندا عام 1887، ثم وزيرا لشؤون آيرلندا من عام 1887 إلى 1891، ثم رئيساً للخزانة من عام 1895 إلى 1902، ورئيساً للوزراء من عام 1902 إلى 1905، تزعم بلفور حزب المحافظين لأكثر من عشرين عاماً، وشغل منصب رئيس مجلس اللوردات 1924 – 1929 وتوفي عن عمر يناهز الـ82 عاماً.
وما يبعث على الدهشة أن اللورد بلفور كان معادياً لليهود مبغضا لهم، إلا أن "حبه" لهم كان رغبة في التخلص منهم! يشاركه هذا الكره لليهود أيضاً كل من تشامبرلين ولويد جورج لويد، وجورج ميلنر، وإيان سمطس الذين لعبوا دوراً أساسياً لتحقيق نيات السيطرة الغربية من وراء هذا الوعد، فقد كان بلفور يعارض الهجرة اليهودية إلى شرق أوروبا خوفاً من انتقالها إلى بريطانيا، وكان يؤمن بأن الأفضل لبريطانيا أن تستغل هؤلاء اليهود في دعم بريطانيا من خارج أوروبا ومن الثابت تاريخياً أن بلفور كان معادياً لليهود، وأنه حينما تولى رئاسة الوزارة الإنجليزية 1903 – 1905 هاجم اليهود المهاجرين إلى إنجلترا لرفضهم الاندماج مع السكان واستصدر تشريعات للحد من الهجرة اليهودية.
أعجب بلفور بشخصية الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان الذي التقاه عام 1906، فتعامل مع الصهيونية باعتبارها قوة تستطيع أن تخدم السياسة الخارجية لبريطانيا وبالأخص قدرتها على إقناع الرئيس الأميركي ولسون بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا. وحين تولى منصب وزارة الخارجية في حكومة لويد جورج في الفترة من 1916 إلى 1919 أصدر أثناء تلك الفترة وعده المعروف بـ"وعد بلفور" عام 1917 انطلاقاً من تلك الرؤية.
لم يكن بلفور يعمل في وعده هذا بوحي من اتجاهاته وميوله الشخصية، وإنما كان الرجل الذي شاء له منصبه أن يكون الوسيلة المعبرة للإرادة الاستعمارية التي أقرت الوعد وأصدرته وعهدت إلى بلفور بإذاعته وإعلانه، بل إن هناك نظاماً كاملاً هو الاستعمار؛ حيث نال قبل صدوره موافقة دول الحلفاء الكبرى جميعها وتصديق الرئيس ولسون بصفته ممثلاً لحكومة الولايات المتحدة الأميركية.
اتخذت الحركة الصهيونية العالمية من وعد بلفور مستنداً قانونياً يدعمون به مطالبهم في سبيل إقامة الدولة اليهودية على الرغم من عدم شرعية هذا الوعد لأسباب كثيرة منها:
– إن هذه الرسالة ليست معاهدة وليست لها أية قيمة قانونية باعتبار أن وعد بلفور يمنح أرضاً لم تكن لبريطانيا أية رابطة قانونية بها، فبريطانيا لم تكن تملك فلسطين والحكومة البريطانية التي أصدرت هذا الوعد خولت لنفسها الحق في أن تتصرف تصرفاً مصيرياً في أرض ليست لها عليها أية ولاية وتعطيه للآخرين دون أن ترجع إلى أصحابه، وفلسطين التي كانت جزءاً من ولايتي طرابلس وبيروت في الدولة العثمانية رفضت تصريح وعد بلفور، ولم تعترف بحق اليهود في فلسطين، وبالتالي فإنه غير ملزم للفلسطينيين.
– إن وعد بلفور تنعدم فيه الأهلية القانونية فطرف "التعاقد" مع بريطانيا في هذا الوعد هو شخص وليس دولة، فوعد بلفور خطاب أرسله بلفور إلى شخص لا يتمتع بصفة التعاقد الرسمي وهو روتشيلد.
– إن وعد بلفور باطل لعدم شرعية مضمونه كون موضوع الوعد هو التعاقد مع الصهيونية لطرد شعب فلسطين من أرضه وإعطائها إلى غرباء، فمن أسس التعاقد أن يكون مشروعاً بمعنى أن يكون موضوع الاتفاق بين الطرفين جائزاً وتقره مبادئ الأخلاق، وحسب وثائق سرية نشرت وزارة الخارجية البريطانية في عام 1952، ورد في مذكرة وضعها بلفور عام 1917 ما يلي: "ليس في نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أن اللجنة الأميركية تحاول استقصاءها.
إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية، وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد وفي الحاجات الحالية وفي آمال المستقبل، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة".
هذا الوعد الذي أثار الجدل حول ما إن كانت خطوة للخلاص من اليهود، وإبعادهم عن أوروبا والتخلص منهم؛ ليدفع الشعب الفلسطيني في النهاية فاتورة كره العالم لليهود بثمن باهظ للغاية ما زالوا يدفعونه حتى بعد مرور تسع وتسعين سنة على هذا الوعد.
ولتوضيح مدى خطورة هذا التصريح يقول الكاتب والصحفي البريطاني ديفيد هيرست في كتابه الشهير "البندقية وغصن الزيتون": كان وعد بلفور إحدى وثيقتين رئيسيتين شكلتا التاريخ الحديث في الشرق الأوسط، أما الوثيقة الثانية فهي اتفاقية سايكس – بيكو، ولقد جاء هذا الوعد نتيجة لهذه الاتفاقية إلا أن أهميته تفوق أهمية هذه الاتفاقية بمراحل، كون هذه الوثيقة غيرت مجرى التاريخ تغييراً جذرياً مثلما فعلت بالصراع العربي – الإسرائيلي الذي هو في العالم المعاصر المشكلة الأولى التي يحتمل أن تفجر يوم القيامة النووي، وإذا حصل ذلك فإن من يبقى على قيد الحياة من المؤرخين لا شك سيسجل أن المشكلة كلها ابتدأت برسالة مختصرة، بريئة المظهر لا تزيد على 117 كلمة بالإنجليزية، وجهها آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني إلى اللورد روتشيلد في 1917.
كما لم يجد المؤرخ الكبير أرنولد توينبي مناصاً من إدانة بلاده على تقديم وعد بلفور للحركة الصهيونية، معلناً أنه كإنجليزي يشعر بالخجل والندم الشديدين على ازدواجية المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك حكومة بلاده في الإقدام على هذه الفعلة المنكرة.
إن بلفور كان سبباً في معاناة الفلسطينيين حتى يومنا هذا، وإنه بوعده هذا صادر حق الشعب الفلسطيني آنذاك في تقرير مصيره بنفسه وأسس لمشروع إرهابي ما زال العالم يعاني نتائجه إلى اليوم، إن وعد بلفور ليس مقدساً، وإنه يجب التراجع عما ورد فيه والاعتذار للشعب الفلسطيني عما عانى بسببه من كوارث، وما دام العالم يواصل العودة إلى وعد بلفور كمرجع فإن النزاع والصراع سيظّلان رهينة مشكلة صنعوها كوننا نعيش اليوم في عالم لا تزال سنته الصراع على البقاء.
عالم لم يشف من عقده وغرائزه المكبوتة ولم ينتصر على رواسب التاريخ، ويبدو أن الصراع على البقاء قد بلغ الآن من الضراوة ما لم يبلغه في أي عصر آخر حيث أعطت الآلة لمن يبدعها قوة هجومية لا حد لها.