التاريخ أصدق إنباء، فيما حوت صفحاته من ذخائر ونفائس عن الثورات والانقلابات العسكرية التي حصلت على الكرة الأرضية من مئات السنين.
والذي لا يقرأ التاريخ، ولا يأخذ منه العبرة، ولا يستفيد من تجارب الشعوب والأمم، فهو أحمق جاهل، وسيبقى يتعثر، ويتخبط في مسيره أبد الآبدين، حتى يعود إلى التاريخ، فيستضيء بنوره، ويسترشد بحوادثه؛ لأنه هو المعلم والمرشد، والمنارة التي تضيء سبيل السالكين.
وقد دعانا القرآن في عدد من آياته إلى النظر في حال الأقوام السابقة، وأخذ العبرة منها،
فقال: "أَفَلَم يَسِيرُواْ فِي الأَرضِ فَيَنظُرُواْ كَيفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيهِم وَلِلكافِرِينَ أَمثالُهَا".
فلو نظرنا إلى الثورة الفرنسية مثلاً، التي حصلت في 14/7/1789 ضد الملكية الفاسدة، نجد أنها حصلت في العاصمة باريس، وليست في نيس أو مرسيليا، وهجم الثوار على سجن الباستيل وحطموه في باريس، وكذلك الثورة الإيرانية الخمينية في أوائل سنة 1979 ضد الشاه، حصلت في طهران، وأسقطوا الشاه ونفوه خارج البلاد.
وعلى نفس المنوال حصلت الثورة الرومانية في 16/12/1989 ضد تشاوسيسكو في العاصمة بوخارست وقُتل هو وزوجته، وأما الانقلابات العسكرية التي حصلت في سوريا، بدءاً من أول انقلاب بعد الاستقلال، الذي حصل في 30/3/1949 بقيادة حسني الزعيم، إلى آخر انقلاب في 16/11/1970 بقيادة الهالك حافظ الأسد، كلها تمت في العاصمة دمشق، ونجحت في العاصمة دمشق.
إذن ما يحصل من ثورة في سوريا منذ خمس سنوات بعيداً عن العاصمة، سواء في الشمال أو الجنوب، هو مخالف لمسار التاريخ البشري، ومعاكس للسنن الكونية، التي تقتضي بأن تبدأ الثورة، أو الانقلاب، أو التغيير من قلب العاصمة التي فيها مركز السلطة. وطالما بقي مركز السلطة آمناً مطمئناً سليماً معافى في بدنه، ولديه كل القوة العسكرية، والسياسية التي تحميه من السقوط، ومن هجوم الثوار عليه.
فستُعتبر الثورة فاشلة مهما أظهرت من انتصارات هنا أو هناك، وأوقعت خسائر كبيرة في المعدات العسكرية، وفي جنود النظام وأعوانه، فلن يكون لها أي تأثير إلا خدوش، أو جروح بسيطة تلتئم سريعاً. إن استمرار المعارك خارج العاصمة، سواء كان قريباً منها، أو بعيداً عنها، خطأ عسكري واستراتيجي، وسياسي وميداني، واستنزاف لطاقة الثوار، وإمكانياتهم المحدودة، وخسارة بشرية مستمرة للمقاتلين والمدنيين، وتدمير للبلد وتفريغه من أهله.
ولن تستطيع بأي شكل من الأشكال إسقاط النظام وتحقيق أي نصر عليه، خاصة أن قوى الأرض كلها تمده بالقوة العسكرية والبشرية، وتهاجم الثوار والمدنيين، وتقتل منهم العشرات يومياً، وتدمر بيوتهم. وقد يعترض أحدهم ويقول: كيف الوصول إلى دمشق وحولها حواجز وخطوط دفاعية رهيبة وكثيرة؟!
الجواب: إذن كيف بدأت منذ أيام معركة "قادسية الجنوب" في القنيطرة.. وكيف وصل إليها الثوار؟ والخبراء العسكريون، وأبناء البلد، قادرون على اختيار الطرق المناسبة، للالتحام مع ثوار معركة "قادسية الجنوب"، والانطلاق بأجمعهم، بما فيه جيش الإسلام، وبقية الفصائل الموجودة في القلمون وغيرها.. والانقضاض على دمشق من جميع أبوابها، والتشابك والمواجهة الفعلية مع جنود الأسد وأعوانهم؛ لمنع استخدام الطيران.
كما أن جزءاً من جيش الإسلام، الذي نشأ في الغوطة، موجود في الشمال، ومناطق كثيرة في سوريا، فكيف تمكن من الخروج من الغوطة؟
وكيف استطاع زهران علوش أن يخرج من الغوطة ويأتي إلى تركيا للتشاور قبل أن يقتلوه؟
على كل حال، فالوصول إلى دمشق ليس عملية مستحيلة، والثوار لا يعجزهم، إذا أرادوا، وصمموا، وعزموا، أن يدخلوها.. المهم يجب أن يعرف الجميع أننا الآن على مفترق طرق:
الطريق الأول:
أن تتوجه جميع الفصائل دون استثناء إلى دمشق، واقتحامها من جميع الجهات، وبكثافة نيرانية كبيرة، مع اشتباك والتحام مباشر مع جنود الأسد، حتى ولو اقتضى الأمر، القيام بحرب شوارع، وبالسلاح الأبيض. وإن لم يتم هذا الأمر بالسرعة المطلوبة، فتقوم الفصائل بمحاصرة دمشق، وفك الحصار عن الغوطة، وبذلك ينقلب الأمر، فيصبح المحاصِر محَاصَراً، والمحاصَر محَاصِراً.
الطريق الثاني:
أن تتوجه كل الفصائل بأجمعها نحو المطارات العسكرية، لتحريرها، والسيطرة عليها، والبدء بأهم المطارات التي تنطلق منها أكثر الطائرات دموية ووحشية.
الطريق الثالث:
بقاء الفصائل في أماكنها كما هي، تناوش النظام يومياً، فتقتل منه عشرة عناصر تزيد أو تنقص، وهو كذلك، يقتل منها ما يستطيع، وتستمر الطائرات في إلقاء حممها، وبراميلها على المدنيين، وتستمر المجازر والمآسي إلى ما شاء الله.
الطريق الرابع:
إلقاء السلاح، والرجوع إلى حضن الأسد الدافئ، وإعلان موت الثورة، وهذا هو الحل السياسي الذي تدعو إليه أميركا وصواحبها.
ما أظن أن هناك طرقاً أخرى غيرها، وبمناقشة هذه الطرق الأربع بموضوعية وعلمية، وعسكرية وميدانية، نجد أن: الطريق الأول هو الأفضل والأحسن، ويختصر الطريق، ويحقق هدف الثورة بإذن الله، إلا أنه قد يكلف جهداً أكبر، ودماء أكثر، وضحايا بالآلاف.
الطريق الثاني يمكن أن يكون الخيار الثاني، إذا وجد الخبراء العسكريون استحالة تنفيذ الطريق الأول. أما الطريق الثالث فالاستمرار فيه عمل عبثي وجنوني ومحرقة ومهلكة للعباد، والحرث والنسل، ولن يحقق النصر نهائياً.
وقد يعترض بعضهم بشدة، وبغضبة مضرية قائلاً: وهل أنت الذي تملك النصر حتى تنفي حصوله؟ وهل أعطاك الله عهداً بهذا؟
كلا، ثم كلا، لا هذا، ولا ذاك. ولكني تعلمت من الله الجليل، أن له سنناً كونية ثابتة: "وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحِيلاً" "سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَد خَلَت مِن قَبلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبدِيلاً".
من سنة الله الثابتة:
أن أي كائن حي لا يموت سريعاً وحالاً إلا إذا قطع رأسه، ويمكن أن يبقى حياً، ولو قطعت جميع أطرافه، ورأس النظام في دمشق، فإذا أردت أن تقض عليه، فيجب دخول دمشق، وقطع رأسه، ولكن مع ذلك: قد يأذن الله بالنصر، عن طريق آخر: قد يكون انقلاباً من جند الأسد، أو يحصل خلاف جذري وشديد بين الداعمين له، فيقتلونه مثلاً، وفي هذه الحالة، لن يكون للثوار أي فضل، وأي أجر في تحقيق النصر، وهذه تسمى "معجزة خارقة"، قد تحصل في أي لحظة، وقد لا تحصل البتة، فلا يجوز التعويل عليها، أما الطريق الرابع فعلى الرغم من كراهيتي له، ورفضي القاطع له، وهو مر علقم، لا يسيغه أي مخلوق، ويرفضه كل الثوار، فإنه إذا لم يبقَ خيار إلا الثالث والرابع، فأظن -والله أعلم- أن الأخير قد يكون أقل ضرراً؛ لأن أميركا وصويحباتها مصرون على الاستمرار في تدمير سوريا بشكل كامل، وهذه تصريحات مدام كلينتون، كما تنقلها وسائل الإعلام.
وبالنسبة لي: فلا أجد خياراً إلا الأول أو الثاني فقط، الذي لا يسير في أحدهما، فهو جاهل مغفل، ومشارك في قتل شعبه، وتدمير بلده؛ لأن الثالث والرابع لن يحققا أي انتصار، ولو بقيت الحرب ألف عام، هل تفهمون؟ وهل تعقلون يا ثوار؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.