بعد أن فاقم التدخل الدولي من مأساة السوريين بدل أن يخفف منها، نشأت مجموعة من السمات التي باتت تميز نظام الأسد المافياوي والعائلي، الذي كان يحكم بلاداً غنية بالموارد البشرية قبل الطبيعية لعشرات السنين، للتكيف مع حالة الاعتماد الكامل على الخارج في الدعم العسكري والسياسي.
خلال السنوات الثلاث الماضية، وبالرغم من الدعم والتسليح الخارجي، أسهم نظام الأسد بضمور الدولة بشكل متزايد، وإن استمرت الأمور على هذا النحو سيجد الأسد نفسه قريباً مثل غيره عاملاً مشتركاً رمزياً يجتمع حوله تحالف هزيل من اللصوص والإقطاعيات، وبهذا، ومع التحلل البطيء لما كان دولة قوية وجيشاً ومؤسسة حزبية، يصبح شخص بشار الأسد نفسه مجسماً لآخر أعمدة "النظام" (وليس الدولة) وحربه الشرسة على مواطنيه.
معظم القوات الحربية المقاتلة في سوريا اليوم، وبالذات تلك الموالي منها للأسد، هي من الأقليات، وهي تقاتل في حرب تزداد محلية، على الرغم من الطابع الدولي والتدويل الحاصل في الملف السوري، لحماية مجتمعاتهم الخاصة. وهذه الأهداف الدفاعية ما كانت لترتبط برؤية عنفية ندرك تماماً أنها غير مقبولة لدى معظم السوريين، وكارثية على داعميها وغير واقعية عسكرياً، لولا بقاء النظام.
ربما يؤدي إسقاط الأسد إلى اقتتال بين أمراء الحرب، إلا أنه لن يؤدي غالباً إلى انهيار قواتهم واستباحة قراهم؛ فاللاذقية واقعة تحت حماية محمد جبر ورجاله من صقور الصحراء، وليس "الفرقة الرابعة" المتخيلة في غالبيتها والتابعة للأسد. وإن لم يكن هناك فعلاً طبقة قوية بيروقراطية وعسكرية لإنقاذ وإعادة إحياء الدولة، فإن استقل المسلحون الموالون بأنفسهم فعلاً، يكون الوضع مغايراً لما يظنه صانعو القرار في الغرب، ولم يعد التخلص من بشار الأسد كحامٍ للدولة ممكناً وحسب، بل يجب أن يُعد الرجل آخر عقبة أمام عملية سلام تقوم على وقف إطلاق النار وإعادة النازحين إلى مجتمعاتهم.
يؤسس ما تقدم إلى حقيقة مفادها أن النداءات التي نسمعها في العواصم الغربية، وفي موسكو تحديداً، والتي تدعو إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة هي نداءات جوفاء وعقيمة، فخرافة قدرة الأسد على المحافظة على الدولة ومؤسساتها قد سقطت مع احتدام المعارك واستعانته بكل شذاذ الآفاق والدول الحليفة له في مواجهة شعبه، مقابل منحهم امتيازات متنوعة.
خرافة النظام القومي بقيادة الأسد تقود حالياً أسوأ الانتهاكات في هذه الحرب الطاحنة التي لم يعد أحد يعرف هدفها وغايتها، في ظل انشغال الجميع في التفاصيل الميدانية وانعكاسها على الجوانب الإنسانية وتضخيمها في بعض الأحيان غربياً ومن بعض دول الجوار، استنزافاً لموارد السوريين وجيوب الداعمين على حد سواء، يجب على الولايات المتحدة ألا تكون شريكة في هذا الادعاء بقدرة الأسد على حماية كيان الدولة السورية في ظل الوضع الراهن، لقد انتهت الدولة السورية إلى الأبد، وعند هذه النقطة لعل قطعاً سريعاً لرأسها أفضل من انتظار انهيارها.
عندما ثار السوريون في البداية لم يطالبوا بسقوط بشار الأسد فقط وإنما النظام أيضاً، والمعاناة الإنسانية وفشل الدولة وحتى الإرهاب ليست مخاوف تحتاج للموازنة، إنما علامات مرض واحد، هي فساد حكم بشار الأسد ووكلائه ومقربيه وصغار المجرمين الذين رفعهم إلى مقاليد السلطة.
لا يقدم داعمو الأسد الأجانب مساعدة تذكر للإبقاء على هياكل الدولة ومؤسساتها، فإيران تبدو راضية تماماً بالوضع المضطرب على الأرض بعد أن أنفقت الكثير من الموارد لإنشاء شبكتها الخاصة من العملاء عبر البلد، وروسيا التي قد يهمها ثبات النظام أكثر من غيرها تبدو غافلة تماماً عن الوضع برمته؛ إذ يظهر ضباطها وجنودها في صور بين الفينة والأخرى وهم يقاتلون أو يتلاطفون مع العديد من الميليشيات المحلية والطائفية.
ضعف نظام الأسد وعجزه الاقتصادي لا يسمحان له بإجبار أو رشوة المقاتلين في صفه؛ لذا سعى الأسد إلى ربط أتباعه بدمشق مستخدماً وسائل سياسية، فالانتخابات البرلمانية "المسرحية" التي جرت في شهر أبريل/نيسان الماضي أدت إلى تحول هيكلي للنظام من دولة مركزية إلى خليط مائع من أمراء الحروب، حيث فقد عدد من البعثيين القدامى والوجهاء أعمدة النظام التقليديين مقاعدهم لصالح مهربين جدد وقادة ميليشيات ورؤساء قبائل؛ ما قد يسترعي انتباه الحرس القديم في النظام الذين كانوا يشاركون الأسد نهب البلاد لكن وفق الحفاظ على "صيغة" مقبولة من هياكل المؤسسات الرسمية.
إن مستقبل سوريا اليوم ليس رهناً ببقاء الأسد من عدمه، كما هو واضح، بقدر ما هو مرتبط ببقاء مؤسسات الدولة القادرة على إدارة شؤون الحياة اليومية للناس، كما كانت قادرة على فعل ذلك إبان تولي بشار الأسد نفسه عام 2000؛ حيث ظل السوريون يعتقدون لمدة 10 سنوات أن البلاد لا تقاد من قِبل بشار الأسد شخصياً، وإنما تسير ذاتياً وفق مبدأ "ع البركة"، كما يقول السوريون!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.