ما زال مؤتمر "من هم أهل السنة" الذي عقد في الشيشان (المحتلة من قِبل روسيا) أخيراً يثير الجدل، فمع أن القائمين عليه يصرون على أن هدفهم هو جمع كلمة الأمة، فلا يخفى عليهم قبل غيرهم أنهم لم يزيدوها إلا انقساما ًوتشتتاً واحتراباً، وقد نشر الشيخ علي الجفري منشوراً فيسبوكياً للتعليق على الانتقادات الموجهة للمؤتمر، فحصر فيه كعادته ناقديه في فئة "الإسلاميين السياسيين"، وكأنه لا يعلم أن هناك الملايين من المسلمين الذين لا ينتمون إلى هذا التصنيف السياسي وهم يناوئون بقوة توجهه المغرق في التسيّس.
يرتكب الجفري مغالطات فادحة في سياق الرد على منتقدي المؤتمر، فيبدأ بالقول إنهم يهاجمون رئيس الشيشان ويتهمونه بخيانة المجاهدين، ثم يكتفي بالاستشهاد بالفيديو القديم الذي أيد فيه "رمز الإسلاميين السياسيين الشيخ يوسف القرضاوي" رمضان قاديروف، ولعل الجفري اطلع على التوضيحات التي قدمها تلاميذ القرضاوي بشأن هذا الفيديو الذي سُجل بعد إلحاح، وفي بداية عهد قاديروف عندما قدم الأخير نفسه بطلاً لحقن الدماء، وليس في عام 2016 الذي يقدم فيه قاديروف أسوأ أشكال العمالة للرئيس فلاديمير بوتين، وهو يرتكب المجازر يومياً في سوريا!
يعتبر الجفري أن منتقدي المؤتمر "يتلاعبون بالجراح" عندما ربطوا بين انعقاد المؤتمر في الشيشان وما يجري في سوريا، ولم يجد رداً سوى الإشارة إلى أنهم أيدوا سابقاً انضمام الشيشان لروسيا بعد أحداث أفغانستان والشيشان، وهذه من أغرب المغالطات التي تكتفي بخلط المواقف دون اتخاذ موقف أو بيان شبهة أو تقديم حجة، وليس من المنطق أن نحاول استكشاف ما ينوي اتهامهم به.
لكن موقفه يتضح عندما يرى أن المنتقدين "يتحدثون عن دور روسيا في سوريا وهم من استجدى أميركا التدخل في سوريا وليبيا ومصر"، وهذا من الأمثلة التقليدية لنتائج خوض مشايخ التصوف الطرقي في السياسة، فالشيخ لا يرى في الساحة سوى اتجاهين؛ أحدهما يرتمي في أحضان روسيا، والآخر يستجدي أميركا وإسرائيل، ولن يعجز عن استحضار فتاوى تحريم الاستعانة بأميركا إبان احتلال الكويت، كما أنه لن يعجز أيضاً عن متابعة آلاف التحليلات والتصريحات التي يقدمها أنصار الثورات من "الإسلاميين السياسيين"، وهم يعلنون أميركا عدواً صريحاً للثورات وليس العكس، ولعله لا يعلم أن مشروع أميركا لتدريب "المعارضة المعتدلة" لم ينجح بعد جهد طويل في اختيار أكثر من خمسين مقاتلاً سورياً، وأنهم عندما دخلوا إلى ساحة القتال اعتقلهم الثوار في يومهم الأول؛ حيث أفشل "الإسلاميون السياسيون" والجهاديون تدخل أميركا في ثورتهم.
لكن المغالطة الفادحة هي في جنوح الجفري غير المباشر إلى تبرير الارتماء في أحضان روسيا بميل خصومهم المفترض إلى أميركا، فإذا افترضنا أن الجفري كان مستشاراً للخليفة علي، رضي الله عنه، ثم استعان خصمه معاوية بالروم، فهل كان الجفري سينصح الخليفة باللجوء إلى الفرس مثلاً؟
وقبل أن يختتم الجفري منشوره، خصّ جماعة الإخوان صراحة بهجومه، مع أن "الإسلاميين السياسيين" أوسع بكثير من إطار الجماعة، فضلاً عن أن منتقدي المؤتمر أوسع من الجماعات كلها.
في عام 2008 كنت أعمل ضمن فريق إنتاج برنامج "أيها المريد" في دمشق، الذي أنتج جزؤه الثاني أخيراً في الشيشان، وكنت مندهشاً من حصول الجفري على تصريح استثنائي من النظام ليكون أول شيخ يسجل برنامجه الديني في المسجد الأموي الكبير، فالمسجد لم يكن مجرد رمز ديني وتاريخي لسوريا، بل كان ملحقاً برأس النظام ويخضع لحسابات أمنية دقيقة.
كان النظام – الذي يدمر المساجد اليوم ويبيد المسلمين لأسباب دينية معلنة – مهتما بحشد أكبر عدد من المسلمين للاستماع لدروس الشيخ الصوفي الشاب، وكان وزير الأوقاف ورموز المشيخة الدينية حاضرين في دروس الشيخ التي تحولت إلى برنامج جماهيري بثته عدة فضائيات في رمضان، ولا عجب في ذلك إن عرفنا أن الجفري عندما أراد أن يمتدح مشايخ الشام الحاضرين أمامه وكان الشيخ سعيد البوطي من بينه، لم يجد حرجاً في أن يصفهم بأنهم على مذهب الإرجاء في السياسة، وهو الرأي الذي ظهر أثناء الفتن بين الصحابة عندما مال أصحابه إلى اعتزال المعارك الحربية والفكرية وإرجاء الأمر إلى الله.
ولو أن هذه الفئة من متصوفي العصر اعتمدت مذهب الإرجاء في السياسة لكان خيراً لنا ولهم، إلا أنهم ويا للعجب يدّعون ذلك ثم يغرقون في وحل السياسة دون خجل، فإذا كان الشيخ البوطي قد أعلن أكثر من مرة في بداية الثورة أن الثوار هم المسؤولون عن سفك دمائهم؛ لأنهم خرقوا "الإجماع" وخرجوا على الحاكم، فقد كان في الوقت نفسه يعلن أيضاً أن القاتل ظالم، لكن المصيبة أنه انحاز إلى القاتل نفسه قبل أن يختم حياته العلمية بهذا الموقف المفجع، فاعتبر جيش النظام المحارب للإسلام "جيشاً مؤمناً"، ولن تجد في طول سوريا وعرضها أحداً لا يعلم أن المؤسسة العسكرية النصيرية قائمة في عقيدتها وسلوكها منذ عقود على اضطهاد أي عنصر منها يثبت أنه يؤدي فريضة الصلاة (!)، فضلاً عن أن التلفظ بألفاظ الكفر بالله وبأكثر درجات الهرطقة وقاحة هو السلّم الذي يرتقي من خلاله أي ضابط سني درجات الترقي في الجيش السوري، فالمطلوب هو أن يثبت أنه "كافر" قولاً وعملاً وليس مجرد مسلم من خارج فئة "الإسلام السياسي"، فضلاً عن أن يكون عربيداً سكّيراً بالضرورة.
أما علي جمعة، مفتي نظام السيسي، فلم يخجل منذ البداية بتأييد القاتل في قتله مباشرة، مطلقاً شعاره التاريخي "اضرب في المليان"، فأين هو الإرجاء السياسي في كلام هؤلاء "الكبار" كما يسميهم الجفري؟!
يستند أولئك "الكبار" كما هو معروف إلى فتاوى الإجماع على حرمة الخروج على الحاكم حتى لو كان فاسقاً، كما يُنقل عن النووي وغيره، ويتمسكون بالشرط الوحيد "إلا أن تروا كفراً بواحاً"، فيطوفون في أقطار العالم وبين شاشات الفضائيات لإقناع الأمة بأن كل الطغاة ما زالوا مسلمين؛ لأنهم يسمحون للشعب بالصلاة وببناء المساجد وحلقات تحفيظ القرآن، ولأنهم يؤدون الصلاة في الأعياد والمناسبات أمام الكاميرات ويشهدون الشهادتين، وكأن مشايخنا "الكبار" يعطون الطاغية المحارب للإسلام قولاً وعملاً صك براءة مفتوحاً ليمارس ما يشاء، بدءاً من منحه شرعية الحكم عبر التغلب بالقوة، لمجرد أنه استطاع أن يقتل معارضيه ويقمعهم وينال الكرسي بالشوكة، ووصولاً إلى تأسيس جيش محارب للإسلام والمسلمين وعميل لكل أعداء الأمة بكل صراحة ووضوح، ولكن بشرط أن يسمح للمشايخ "الكبار" الذين يمثلون "أهل السنة والجماعة" بإقامة الصلاة في المساجد وتحفيظ القرآن للأطفال، ولا أدري أي تعريف للكهنوت الوثني الذي وُجد إلى جانب الطواغيت منذ فجر التاريخ أوضح من هذه المشيخة؟!
وكأن مشايخنا "الكبار" لم يسمعوا عن مسجد الضرار الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإحراقه، فما نفع بناء المساجد وإقامة حلقات التحفيظ إن كانت مجرد مؤسسات لتدجين الشعب على الولاء والخنوع لسلطة تحارب الإسلام بكل وسائل القوة الخشنة والناعمة؟ أليست هذه العقلية هي التي دفعت الماسوني المحتل نابليون بونابرت لإعلان إسلامه، وهو يقدم نفسه فاتحاً لمصر المسلمة معتمداً على سذاجة من يرون ذلك كافياً لموالاته والخضوع له؟!
في السنة الأولى من الثورة السورية، ناقشتُ الجفري على صفحته الفيسبوكية وأمام متابعيه بشأن هذه الشبهة الفقهية، فاستعاد بالطبع فتوى حرمة الخروج على الطغاة الأمويين على الرغم مما فعلوه بآل البيت من قتل، فسارعتُ إلى تذكيره بأن أكثر الأمويين جوراً لم يكن عميلاً للفرس ولا الروم، ولم يتخل عن لعب دور الخليفة الذي يحمي بيضة الإسلام ويقيم الشرع ويحمي الثغور، وينشر رسالة الإسلام في الفتوحات التي لم تتوقف، كما أن جورهم لم يبلغ عُشر الطغيان القائم اليوم، وفسقهم لا يقارن بالكفر البواح المُعلن صراحة بين ضباط جيوش ومخابرات وشرطة اليوم، لكن الشيخ الجفري لم يجب عن هذا الاعتراض الأخير، على الرغم من إلحاح المتابعين آنذاك بأن يتكرم بالرد.
ما لا يريد أن يراه مشايخ السلطان هو أن الفقهاء الذين أجمعوا سابقاً على تحريم الخروج على الحاكم لم يكتفوا بهذا الحكم لحقن الدماء، بل حرموا أيضاً معاونة الظلمة أو التعامل معهم بأي شيء حتى لو اعتبروا حكمهم شرعياً بحكم الضرورة، فقد روى ابن حجر الهيتمي في "الزواجر عن اقتراف الكبائر"، عن التابعي سعيد بن المسيب قوله: "لا تملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لئلا تحبط أعمالكم الصالحة"، وقال إن خياطاً جاء إلى التابعي سفيان الثوري فقال: إني أخيط ثياب السلطان أفتراني من أعوان الظلمة؟ فقال له سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط، كما قال أبو بكر المروزي: إن سجّاناً جاء إلى أحمد بن حنبل في سجنه، فقال له: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟ قال ابن حنبل: نعم، فقال السجّان: فأنا من أعوان الظلمة؟ قال الإمام أحمد: فأعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم.
فماذا نقول اليوم في من يطالب الظالم العميل للعدو – الذي تمارس جيوشه الكفر البواح كل يوم – بأن يقتل الثوار على اعتبار أنهم خوارج؟ وماذا نسمي المفتي الذي يصرخ "اضرب في المليان" بحق ناشطين سلميين تجمعوا في ميداني رابعة والنهضة دون أن يحملوا قطعة سلاح؟!
ليت الجدل ظل منحصراً في الجانب العقائدي وأدبيات علم الكلام من أجل "استرداد مصطلح أهل السنة" كما يقول الحبيب الجفري، لكن الذي يعيب على خصومه أنهم "إسلاميون سياسيون" كان قد نشأ في بيت السياسي اليمني الكبير عبد الرحمن علي الجفري، وما زال منخرطاً في مشاريع سياسية ذات غطاء ديني لصالح دول إقليمية، ومن المحزن جداً أن أقارن بين صورته الملائكية التي لمستها عن قرب في الجزء الأول من برنامج "أيها المريد"، وبين حضوره الكارثي في فضائيات السيسي، وهو يجادل خصومه بأدوات السياسة البحتة، وبقدر عجيب من المغالطات، ثم يختتم منشوره الأخير باتهام الآخرين بالبغي عليهم، فيما لا يزال الطغاة يمارسون الإبادة الجماعية والتهجير القسري وإعادة كتابة التاريخ ورسم الجغرافيا لصالح روسيا وأميركا معاً.
فأي بغي أعظم من هذا؟! وأي فتنة يزرعها مشايخ السلاطين في قلوب الشباب الذين باتوا يرون في الإسلام أداة للظلم بدلاً من التحرر؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.