بعد جملة المصالحات والتحالفات الأخيرة المتسمة بأقصى درجات السرعة بين الأطراف المعنية بالملف السوري، وخصوصاً (روسيا وتركيا وإيران) وما أعقبها من تصريحات وتفسيرات وبيانات التوضيح التي رسمت حدود مصالحها بصورة منفردة أو مشتركة، والتي لم تخلُ من تناقضات وتعارضات في التوجه العام حول سوريا القادمة المطلوبة وجوداً بعد كل الخراب والدمار، ونظاماً بعد أن وصلت سلطة الأسد إلى حافة السقوط وجغرافيا سياسية بعد الانقسامات الحادة، وتزاحم قيام سلطات الأمر الواقع المحلية، ودوراً بعد زوال سوريا كدولة من خارطة الفعل والتأثير.
نقول بعد كل ذلك تلقت المجموعات العاملة بالداخل السوري وأدوات الصراع والاحتراب ما يشبه الصدمة، وبدأت تبحث عن سبل للنجاة وإثبات الوجود عبر المزيد من العنف والتوجه نحو تبديل المواقع حفاظاً على الذات أولاً وآخراً.
الطغمة الحاكمة في روسيا التي تشعر بأن الساحة خالية أمام توسع نفوذها وترسيخ تحكمها بالمآل السوري تحاول جاهدة في إذلال كل العقبات أمام تمددها فكانت المصالحة مع تركيا والتوجه نحو كسر الجليد في علاقاتها الخليجية، وخصوصاً السعودية، وإعادة النظر في موقفها من القضية اليمنية بعد أن أرادت استثمارها للضغط بصورة انتهازية، وفي حسابات المصالح المهمة منها، والأهم لم يعد نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سلم أولوياتها بعد أن أذلتها وداست على سيادتها باستخدام قاعدة "همدان"، وبعد أن اختارت التقارب مع الغالبية السنية الرسمية بعد استخدام إيران الشيعية وميليشياتها المذهبية لأربعة أعوام في الأتون السوري.
الإدارة الأميركية الراهنة الغارقة في سبات عميق المستسلمة أمام الهجمة الروسية، بل اللاحقة بها والباحثة عن رضاها والتنسيق مع إيقاع خطواتها التي خذلت سوريي الثورة والمعارضة قبل ذلك، وصدت طلبات الجيش الحر في طلب المساعدة العسكرية لمواجهة النظام أولاً وإرهابيي داعش والقاعدة وأصبح شغلها الشاغل الآن -هذه القوة الأعظم- التعامل مع أحزاب ومجموعات مسلحة فالتة من عقالها وغير مؤتمنة بذريعة الحرب فقط وحصراً على "داعش" حتى لو مدت أياديها إلى من هو أكثر إرهابية من "داعش" أو سبباً في ظهور "داعش" أو مكملاً لدوره في قادم الأيام.
حكومة تركيا (الأردوغانية) التي كاد الانقلاب العسكري الفاشل يطيح بها أسرعت في إعادة إنتاج نفسها واكتشاف مستجدات الملف السوري الذي ينبئ بشبه غياب الحليف الاستراتيجي الأميركي وصعود الدور الروسي سرعان ما مدت أيادي المصالحة إلى "العدو الروسي" التاريخي والراهن واختيار طريق أولوية المصالح الاقتصادية التي تربو قيمتها على (100) مليار دولار، وتخريج الصفقة تحت عنوان الحل السلمي لا العسكري للقضية السورية على قاعدة اتفاقية فيينا القاضية بمشاركة الأسد في المرحلة الانتقالية، وعدم لعب أي دور (في مستقبل سوريا!) والأمر الأهم لتركيا في تلك الصفقة هو سهولة الموافقة الروسية على وحدة سوريا وظهور عدم وجود أي التزام روسي رسمي بالعلاقة مع "ب ي د" التي طالما طبل لها الأخير.
نظام جمهورية إيران الإسلامية الذي أخفى قلقه البالغ على المصالحة التركية – الروسية حاول الظهور بمظهر المشجع والاستعداد؛ ليكون الضلع الثالث في التحالف الجديد، ولكن سرعان ما أصيب بالدهشة والمرارة بعد محاولات إقصائه من لعب أي دور في الملف السوري، وثبات تركيا في حلفها الاستراتيجي مع السعودية، وتوجهات روسيا في إصلاح العلاقة مع دول الخليج وتصحيح الموقف من الأزمة اليمنية ثم الاستهتار الروسي المتعمد بالسيادة المزعومة لحكام طهران بعد استخدام قاعدة "همدان" وما تلاه من تلاسنات، كل ذلك سيدفع هذا النظام المذهبي الظلامي المعتدي على أمن وسلامة شعوب المنطقة إلى استخدام كل ذخيرته لإثارة الفتن والحروب.
في ظل ما يجري من حولنا في الجوار والأبعد وإمساك الآخرين بمفتاح تقرير مصير سوريا وشعبها فإن المعارضة السورية التي ابتليت بها الثورة منذ اندلاعها لم تعد تجيد حتى الرقص المنسق على أنغام الأوركسترا الخارجية، وباتت في حكم الميت سريرياً بعد أن أحجمت أو عجزت عن التجديد والإصلاح، وصولاً إلى إعادة بناء مفاصل الثورة من جديد لمواجهة التحديات الخطيرة، أقلها التفاعل مع ما يرسم لبلادنا سلباً أو إيجاباً، وليس أمامها في الحالة هذه إلا السير وفق إرادة الآخرين، وبدون أي ثمن لصالح الشعب وثورته.
جماعات "ب ي د" المرتبطة بـ"ب ك ك" التي التزمت الخط الموالي للمحور الأسدي – الإيراني منذ اندلاع الثورة السورية والسائرة حسب هوى ومتطلبات مصالح الحزب الأم وقيادته العسكرية في "قنديل"، وبالضد من مصالح الكرد السوريين ومستقبلهم الذي لا يتجزأ من مستقبل السوريين المنشود في وطن مشترك حر ديمقراطي كانت أول الأطراف التي تأثرت سلباً من التطورات الجديدة المتسارعة.
وهي الآن أمام مفترق طرق: إما الإعلان عن تخطئة نهجها والانضمام إلى صف الشعب السوري وثورته ومواجهة نظام الاستبداد ليس عسكرياً فحسب، بل سياسياً أيضاً والتصالح مع نفسها أولاً ومع الكرد السوريين، وفك الارتباط عن حزبها الأم كما فعلت "جبهة النصرة" مثلاً أو ستبقى في دائرة الشبهة والريبة وسينظر إلى كل مواجهاتها العسكرية مع توابع النظام على أنها سوء تفاهم بين أفراد العائلة الواحدة، وأن حروبها تهدف إلى إفراغ المناطق وتعزيز سلطة الحزب الواحد الديكتاتورية بالاتفاق مع نظامَي إيران والأسد.
إن تشخيص الحقائق والوقائع مهما كانت قاسية وسلبية لا يعني الاستسلام لها، بل هو الخطوة الأولى نحو البحث عن سبل لتفادي ما هو قائم، وتغييره نحو الأفضل عبر المزيد من المراجعة واللجوء إلى الطرق المشروعة في إعادة البناء، وفي المقدمة العودة إلى الغالبية الشعبية مصدر الشرعيتين الوطنية والثورية في إطار المؤتمر الوطني الشامل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.