أن تحيا على أرض هي بالنسبة لك وطن تولد به حياة يتشكل منها وجدانك وأفكارك وماضٍ مليء بالذكريات ينتظر مستقبلاً صنع من أحلامك وطموحات يحمل هوية وجنسية وحقوقاً إنسانية تكتمل توصيفها في تعريفك كمواطن يمتلك كافة حقوق المواطنة، فهي تعتبر من أسمى وأبسط حقوقك كإنسان يحيا بهذا العالم، وهكذا كان الوضع في سوريا.
خلال ما يعرف بفترة الربيع العربي، وما مرت به من أحداث كانت نتاج البحث عن الحرية والعدالة والديمقراطية، وتلك التي ظهرت في صورة الثورات العربية التي تبلورت فكرتها بعد معاناة هذه الشعوب العربية من الظلم والاستبداد والرغبة في حدوث تطور اجتماعي وسياسي اندلعت الثورة السورية أسوة بباقي الثورات التي حدثت ببعض الدول العربية، والتي استطاعت أن تحقق تغييراً كان غير متوقع، وأطاحت بأنظمة دامت لفترات طويلة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فتحول الربيع العربي السوري إلى كابوس أطاح بكافة الآمال والأحلام والطموحات ومظاهر الحياة الطبيعية التي اعتاد عليها السوريون في السابق.
تسبب أسلوب القمع الذي تم اتباعه من خلال النظام السوري سعياً لإخماد تلك المظاهرات والانتفاضات الشعبية إلى تصاعد شدة الاحتجاجات والغضب، وبضعف النظام عن التصدي لتلك الأحداث، ومما تشكل من تدخلات غير معلومة المصدر تحولت الثورة السورية إلى حرب داخلية أشد قسوة من أي حرب أخرى عرفها التاريخ.
"على هذه الأرض في يوم ما كانت توجد حياة".
تنشب الحروب على الأغلب بين طرفين أو أكثر يعرف كل منهم الطرف الآخر، ويقاتل دفاعاً عن بقعة أرض هي بالنسبة له وطن من وجهة نظر محددة، ولكن على العكس ما حدث في سوريا فقد نشبت حرب لا يعرف أطرافها ولا تعلم مصادر تمويلها إلا أنها تسببت في موت حياة كانت في السابق دون النظر عن مدى عدالتها، وأصبح المواطن السوري لا يجد وطنه ولا أهله ولا حلمه، وأصبح خصماً في حرب مؤكدة.
عندما تجد في وطنك جماعات مسلحة من حولك استطاعت أن تحقق اختراقاً في النظام الأمني تختلف وجوههم عنك، ولا تعرف حقيقة موطنهم، وتكون في ذات الوقت أنت الخصم لهم وللنظام، حينها تفقد الأمان، وينتشر الدمار من حولك، فهنا يصبح الرحيل فرضاً وليس اختياراً، إما أن تختار أن تموت مائة مرة باليوم أو تعبر بحلم البقاء في قارب مطاطي لمكان آمن أنت، ومن تبقى معك من أفراد أسرتك، وفي هذه اللحظة سوف لا تنظر لمخاطر العبور فهي أهون بكثير من الموت بدم بارد.
في خلال فترة قصيرة أصبح هذا المواطن السوري في موقف لا تحمد عقباه وتحول لفريسة في أيدي عصابات التهريب البشرية التي تخلت عن إنسانيتها بحثاً عن المال والثراء السريع، من خلال تكوين شبكات تهريب للاجئين على مستوى دولي، وخانت وعودها برحلة لا ينجو منها إلا القليل، وباتت "حلب" المدينة المدمرة التي لا تصلح للبقاء.
لم يكن هذا السوري على علم أنه باستقلاله القارب المطاطي هو وأفراد أسرته سوف يتحولون من مواطنين إلى لاجئين بدون حقوق ولا هوية، باحثين عمن يحمي الإنسانية، وهكذا كانت "برلين" هي وجهته المرجوة التي رحبت باستضافة هؤلاء اللاجئين في موقف نبيل وإنساني يعجز عن الشكر.
نعلم أن في مثل هذه الظروف العصيبة يكون الخاسر ليس من يغادر وطنه فقط، ولكن هناك أكثر من خاسر، فما تشكله أعداد اللاجئين من عبء وأضرار اقتصادية ومادية على دول أوروبا مقصد اللجوء، أصبحت ظاهرة بشكل واضح، مما أدى إلى حدوث خسائر جديدة غير متوقعة على كل من الطرفين، والتي تعرف بالخسائر النفسية.
وبدون سابقة إنذار أصبح هذا اللاجئ مصدراً للإزعاج والخوف من شبح الإرهاب والهجمات الذي غزا أوروبا في فترة قصيرة، وتشكلت فكرة أن هذا اللاجئ العربي المسلم ما هو إلا إرهابي متطرف، علماً بأن هذا الإنسان لا يهوى القتل والعنف والدمار، وبهروبه من ويلات الحرب أصبح لاجئاً باحثاً عن السلام وليس داعياً للتطرف والإرهاب.
لعل مواطني أوروبا يعوا تماماً أن هذا اللاجئ يرتعد خوفاً من الإرهاب والدمار أكثر من أي إنسان آخر، فهو من تعرض للقصف والقتل والانفجارات وفقد الأهل والابن والبنت بإحدى الليالي التي بدت هادئة في بدايتها، أو غرقاً باستقلاله قارباً مطاطياً.
إن الإنسانية في تاريخ البشرية وما تصنعه الغريزة بداخلنا لم تفرق يوماً ما بين عرق أو جنس أو لون أو دين، فنحن من نصنع هذه الفروق والاختلافات، وأوروبا تعي تماماً مقدار معاناة الحروب والنزاعات، فتلك القارة التي عانت من قسوة الحرب العالمية بمراحلها الأولى والثانية، تعلم أن شعور المرء بالأمان والسلام هو أهم حق من حقوق الإنسان.
دعونا لا ننخدع بدعوات متطرفة وأفكار وهمية تنتشر لأغراض خبيثة من أجل نزع الأمان والاستقرار، وعلينا أن ننشر ثقافة السلام في هذا العالم الذي ساد به العنف، ويعاني من اضطرابات وتقلبات ومساعٍ خفية تهدف للتدمير وتكوين عداءات بين أفراده.
إن أطفال سوريا تفتحت طفولتهم في أبشع صور الحروب والقتال، وعانوا من الدمار، ودفعوا ثمن أخطاء لم يرتكبوها يوماً ما، وجاءوا يبحثون عن الأمان والإنسانية ليجدوها حالياً في أوروبا التي تسهم بشكل واضح وصريح في توثيق طفولة جديدة لهم مليئة بالسلام والرحمة، ففي يوم ما سيكبر هؤلاء الأطفال، ويصبحون أناساً ينتمون بالحب والإخلاص لمن قدم لهم الرعاية، وحمى تلك الطفولة التي كادت تفقد معانيها، ومما لا شك فيه فإنهم سوف يحملون رسالة سلام لبلاد أصبحت موطن طفولتهم الجديدة الهادئة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.