يطمح الأكراد إلى إيجاد تواصل جغرافي بين منطقة عفرين وبقية المناطق السورية التي ينتشرون فيها، ما من شأنه إقامة حزام يفصل تركيا عن كامل أراضي الجمهورية العربية السورية، وعلى وجه الخصوص مدينة حلب، ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى، ولمكانة خاصة تتمتع بها حلب في قلوب الأتراك وتاريخهم، وهو ما يشكل تهديداً واضحاً لأمن أنقرة القومي.
وسبق أن نفى تانغو بيلغيتش، المتحدث الرسمي باسم الخارجية التركية، وجود اتفاق عسكري سري بين أنقرة وواشنطن بخصوص منبج.
تمثل منبج بموقعها الجغرافي أكبر كتلة ديمغرافية تقف عقبة أمام المشروع الكردي، وهذه النقطة قد تكون وراء تحول وجهتهم والابتعاد عن الرقة، مرحلياً، فمعركة منبج بعد حسمها، تكون نتيجتها أهم من معركة الرقّة، نظراً إلى أبعادها الاستراتيجية ربحاً أو خسارة لجميع المشاركين فيها، فمنبج ستكون جسراً يربط بين القطاعات الثلاثة للمشروع الكردي الحلم، الجزيرة وعين العرب وعفرين؛ حيث يتصل قطاعا الجزيرة وعين العرب، بعد سيطرة الأكراد على الشريط الحدودي مع تركيا كاملاً، ويبقى الجيب ما بين ضفة الفرات الغربية وعفرين، والذي يبدأ بمنبج وجرابلس شمالها، مروراً بالباب ودابق، والتي يسيطر عليها جميعاً تنظيم الدولة، حتى أعزاز، التي تسيطر عليها قوات المعارضة السورية.
بعد حسم معركة منبج تكون بذلك الميليشيات الكردية قد تجاوزت نهر الفرات، في مناطق عربية تاريخياً، لا يملك فيها الأكراد أي امتداد تاريخي أو اجتماعي، أو ديمغرافي.
تُعَد تركيا الطرف الأكثر تضرراً جراء الاجتياح الكردي لما تبقى من مدن وبلدات الشريط الحدودي مع سوريا، والواقعة غرب نهر الفرات، وخصوصاً أن منبج تقع في قلب المنطقة التي يريد أكراد سوريا إقامة حكم ذاتي فيها.
تدرك واشنطن جيداً مخاوف أنقرة؛ لذلك قدمت تطمينات بأن نسبة القوات الكردية المشاركة لا تزيد على خُمْس "قوات سوريا الديمقراطية"، ولكن الأتراك ومعظم السوريين يعلمون جيداً أن التركيبة الفعلية لهذه المجموعة المسلحة مغايرة لما يقدّمه الأميركيون من معلومات، خصوصاً أنه لا يخفى على أحد أن ميليشيات صالح مسلم الكردية تشكل غالبية هذه القوات، لا بل إنها هي الآمر الناهي فيها.
واعتبر مراقبون أن كثافة المجازر في الآونة الأخيرة التي ارتكبتها قوات التحالف في قرى ريف منبج العربية، تأتي في محاولة منها للإسراع بفتح الطريق أمام الميليشيات الكردية لاستكمال مشروعهم، الذي يمثل لتركيا خطراً قومياً، في ظل معركتها الطاحنة مع حزب العمال الكردستاني، الذي يمثل "حزب الاتحاد الديمقراطي"، ووحداته الشعبية، امتداده السوري، مما يعني تأمين عمق استراتيجي للأكراد وخطوط إمداد من داخل تركيا وسوريا وإليهما، مستغلين انشغال أنقرة بترتيب وضعها الداخلي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة.
وفي حال لم تتراجع "قوات سوريا الديمقراطية" إلى ما وراء خط الفرات شرقا، وتقدمت إلى الباب، أو جرابلس، سنكون أمام خيارين: إما تم اتفاق أميركي تركي؛ لأن هذه القوات لا تستطيع التحرك بدون قرار أميركي، فبدون هذا القرار يعني أنها تسير إلى حتفها، أو أن العلاقة بين أنقرة وواشنطن توترت بشكل كبير وجدي، وهذا حالياً ليس في صالح واشنطن، ولا سيما أنه يتزامن مع المصالحة التركية الروسية، وبالتالي كأنها تدفع أنقرة نحو موسكو أكثر.
واللافت بعد مواجهات مدينة الحسكة، بيان القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة السورية أن "الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني "الأسايش" صعد في الآونة الأخيرة من أعماله الاستفزازية في مدينة الحسكة كالاعتداء على مؤسسات الدولة وسرقة النفط والأقطان وتعطيل الامتحانات وارتكاب أعمال الخطف بحق المواطنين الآمنين وإشاعة حالة من الفوضى وعدم الاستقرار".
وذكر العمال الكردستاني الحزب التركي بالاسم في هذا البيان، لم يكن من قبيل الصدفة، فهذا البيان يحمل رسالتين: داخلية، للفصيل الكردي الانفصالي، بأنه ذهب بعيداً، في التعاون مع واشنطن، وتوقيت هذه الرسالة مرتبط بالتعاون التركي الروسي بعد المصالحة، وكذلك قبيل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإيران، والرسالة الثانية خارجية، لأنقرة، مفادها أن تركيا كانت محقة في كل اتهاماتها للميليشيات الكردية السورية، بأنها الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة بالإرهابي.
ولم يكن مفاجئاً إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن التحالف الدولي أرسل مقاتلات لحماية المستشارين الأميركيين العاملين مع القوات الكردية خلال تعرضها لقصف من طائرات النظام، وقال الناطق باسم البنتاغون الكابتن جيف ديفيس: "تم ذلك كإجراء لحماية قوات التحالف"، إذ إنه لم يتطرق لمصير تلك القوات الكردية، فمن المؤكد أن واشنطن لن تكون بعيدة عن أي اتفاق في حال تم التوصل إليه بين الروس والأتراك، وستنضم إليه إيران لاحقاً.
يسيطر الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني التركي المصنف إرهابياً في تركيا والناتو، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) أبرز القوى الكردية السورية وميليشياته (YPG) القوتان اللتان تصفهما أنقرة بالإرهابيتين على ثلاثة أرباع الحدود السورية مع تركيا، ويتابع استفزازه تركيا، بالتقدم إلى مناطق كان النظام السوري في السابق تعهد بمنع أي تحرك مسلح كردي فيها، أو السماح للجيش التركي بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة المسلحين الأكراد فيها، كما حدث في أوقات سابقة.
يدور الحديث عن أن الأكراد في سوريا يشكلون القومية الثانية، وقد يكون هذا كلام حق يُراد به باطل، لإسقاط الحالة الكردية في شمال العراق على أكراد سوريا، من دون الأخذ بالاعتبار فوارق كبيرة بين الحالتين، وهي أنهم في سوريا لا يمتلكون المقومات التي لدى نظرائهم شمال العراق، ديمغرافياً وجغرافياً، وسبق أن أشار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا إلى أن نسبة أكراد سوريا 05%، ولا تمتلك أي تواصل جغرافي بين المناطق الرئيسية التي تقطنها (القامشلي – عين العرب – عفرين)، بالإضافة إلى أنه حتى المناطق التي هي فيها أكثرية، لا تشكل أغلبية مطلقة، على عكس المكوّن العربي الرئيسي، وهذا يفسّر التحرك السريع والمفاجئ، في الآونة الأخيرة، لميليشياتٍ كردية بدعم روسي تارة، وأميركي تارة أخرى، في مناطق غرب الفرات وفي محيط مدينة حلب، استعداداً لسيناريو كهذا معد مسبقاً، لتحقيق عمق وامتداد جغرافي، ولم تكن معركة منبج قبل أسابيع إلا استمراراً في هذا السيناريو.
والمنتظر ترجمة للتفاهمات التي توصل إليها الرئيس التركي أردوغان في اجتماعه المغلق الذي استمر أكثر من ساعتين مع نظيره الرئيس الروسي بوتين، ومن المتوقع أن تنعكس هذه التفاهمات بصورة أو بأخرى في الملف السوري، وهنا لا يمكن إغفال حقيقة تغير الأولوية التركية في الساحة السورية -منذ شهور كثيرة- حيث بات المشروع الكردي في شمال سوريا والمدعوم أميركياً مبعث قلق كبيراً لأنقرة، ما يجعل النقاط الخلافية الأخرى مجرد تفاصيل يمكن مناقشتها لاحقاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.