في العادة يستقبل المسلمون رمضانَ كل بطريقته، بعضهم يهيئ الفوانيس في منزله مع أطفاله والآخر يعدُّ جدولاً لعباداتٍ يوّدُ التقرب بها إلى الله، وهناك جزءٌ آخر من المسلمين لم يدرِ عنه الكثير، أعدوا لاستقبال الشهر الفضيل كمياتٍ كبيرة من المواد الغذائية سعياً لسد رمق جوعهم أطول فترة ممكنة أثناء الحصار المرتقب على قضاء القائم الذي لاحت بوادرهُ منذ منتصف الشهر السادس.
كَفتاة أُجبرت على مغادرة مدينتها (الفلوجة) في يوم عيد الجيش 6/1/2014 ولاقت ما لاقت لتصل إلى منطقةٍ يُفترض أن تكون أكثر أمناً ثم الخروج مرةً أخرى خارج العراق والعودة من أجل امتحانات نهاية السنة الدراسية، كان الخروج للمرة الثالثة والمغامرة بأرواحنا صعباً بما فيه الكفاية ليجعلني أرغب بالموت بين أهلي ومن أحب إلا أن خوف أبي عليَّ وعلى عائلتي أجبرنا على اتخاذ قرارٍ بحزم بعض الأمتعة التي لم تتجاوز القليل من الملابس وكتبنا الدراسية لِوصية أبي أن لا نزيد في أمتعتنا لكي لا تكون عائقاً فيما لو اضطررنا للمشي مسافات طويلة.
بداية أولى ليالي رمضان لم تكن أغرب من سياراتٍ حديثةٍ تحمل شباباً مدججاً بالسلاح يرفع صوت مسجله بـ(أناشيد تنظيم الدولة) ويتجول في الأحياء السكنية مع انتشار بعض عناصر الجيش في أطراف المدينة على الرغم من علمهم بجولات داعش منتصف الليل ولكن لا ساكن يُحرك!
في تلك الأجواء التي كان من المفترض أن تكون روحانية، كنا نأكل طعامنا على عجالةٍ، وصلت السيارة التي من المفترض أن توصلنا إلى أربيل، ثم ودَّعنا بيت خالتي التي فتحت لنا منزلها منذ خروجنا من الفلوجة فكان كأي وداع بين الأهل مع إضافة كونهم لا يعلمون إن كُنا سنصل أو لا.
بدأت رحلتنا الساعة الرابعة فجراً وأتممنا ساعتين متواصلتين بهدوء حتى بدأ وقت معاناتنا، تبعتنا إحدى عربات الجيش وبدأت تطلق النار عشوائياً ويخبرون السائق أن يسلك الطريق الغير المُعبد ففعل، حتى سرنا في طريق أقرب لممر عاصفاتٍ رمليةٍ منه إلى طريق عبور حتى اقتربنا من إحدى (السيطرات) فأخبرونا بالمكبرات أن نعود من حيث أتينا وكان قد مرَّ علينا خمس ساعاتٍ منذ خروجنا فعدنا كيلومتراتٍ قليلة حتى صرنا خارج مجال رؤيتهم فدخل السائق طريقاً آخرَ أشك أننا أول من سلكه.
طعمٌ آخر للمعناة بدأ في ذلك الطريق، لسوء حظنا اكتشفتنا إحدى المروحيات وبدأت تتبعنا لفترة قصيرة حتى بدأت بإطلاق النار علينا ونحن لا حول لنا ولا قوة غير الدعاء (وقول الشهادتين استعداداً للموت) فَأصيبت إحدى السيارات خلفنا التي غامر أهلها هي الأخرى في الخروج، لكننا لم نستطع الوقوف للمساعدة واكتفينا برؤيتهم يموتون مع صرخات شقيقتي الصغرى تخبرنا فيها أنها خائفة أن تموت وهي لم تدخل المدرسة، ولم يكن لديها معلمة جميلة ونحن نحاول إقناعها برؤية أبي، ولكن دون جدوى فالرعب قد أخذ مأخذه من قلب الطفلة.
يا لحسن حظنا، استطعنا وصول مدينة بيجي ونحن أحياء وبدون إصابات، ومع كل تلك العقبات وصلنا الموصل لنبيت فيها وكانت تلك أول مرة لي أزور الموصل، فكانت آثار النعم جليةً فيها لولا بدايات تخريبها من قِبل داعش، لا أعلم ما الضرر الذي قد تسببه شُجيرات مزروعة على رصيف الشارع لِيُحرقوها أم أنها قد تحمل سلاحاً بوجوههم، ناهيك عن الشوارع الفارغة التي لم نجد فيها سوى بعض الدواعش يقفون على رأس كل شارع فكان يسود المدينة هدوءٌ عاصف.
بحثنا عن فندق نبيت فيه تلك الليلة؛ لأن الوقت قد تأخر لعبورنا إلى كردستان ولكن وبطريقةٍ ما تصادف أن جميع الفنادق يسكنها أفراد الدواعش المهاجرين إلى الموصل (للجهاد كما يزعمون) فذهبنا إلى بيت صديق لأبي فأفطرنا وقضينا ليلتنا هناك.
عقبة رحلتنا الأخيرة كان دخول إقليم كردستان، فغادرنا الموصل مع طلوع الشمس قاصدين دهوك، مع أعداد النازحين الكبيرة الفارين من بطش داعش (والجيش) سعياً وراء مكان يأمنون فيه على أطفالهم وأنفسهم، ولم يكن هناك مكان بهذه المواصفات في عراقنا متوافراً إلا في كردستان، وقفت سيارتنا في طابور تجاوز الكيلومترين في طوله لأكثر من خمس ساعات حتى أخبرنا أفراد البيشمركة -جيش إقليم كردستان- أن الحد قد أُغلق وعليكم الانتظار حتى الغد أو الذهاب والعودة غداً، سائق السيارة كان فطناً لحسن حظنا فَطلب منا بطاقات الإقامة في تركيا وأخذها إلى أحد ضباط البيشمركة وبعد تحققه منها أعادها لنا وسمح لنا بالدخول ومواصلة طريقنا إلى تركيا.
رحلتنا التي استمرت لثلاثة أيام كانت كَكابوسٍ أبعد ما يكون عن الحقيقة ومع كل ما حدث فقد كنّا أكثر حظاً من كثيرٍ غيرنا لم يستطيعوا الدخول أو حتى مغادرة منازلهم، والبعض الآخر مات شهيداً دون الحياة الكريمة، إما برصاصٍ أو جوعاً، أما الذنب الذي اقترفوه -لِيكون قاتلهم داعش وحكومتنا بجيشها وميليشياتها وحليفتها إيران- كان هويتهم، إنسانيتهم، أحلام أطفالهم وشبابهم، رغبتهم بالحياة كَغيرهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.