"خرجنا من المخيم بعد أن أعطونا الأمان، وأنا أمسك بيدي اليمنى يد سليم ابن أخي، وعند حاجز الكتائب على مدخل المخيم وأمام سمع وبصر الصليب الأحمر اللبناني والدولي، بالقوة أخذوا سليم مني، وكان حينها في الخامسة عشرة من العمر، رجوتهم وبكيت أمامهم أن يعطوني إياه، فهو لا يزال طفلاً وليس له شأن بالمعارك التي حصلت، جاوبوني بالحرف: (ما تقلقي شوي وبِلحَقِك، وبعدني ناطرة). قصة سليم علي ميعاري نموذج لقصص الكثيرين من المفقودين من اللاجئين الفلسطينيين الذين لا يعرف مصيرهم حتى الآن، على الرغم من مرور 40 سنة على سقوط المخيم، توفيت الحاجة صبرية ميعاري عمّة سليم، وهي على أمل أن يعود، وقد كان لكاتب السطور عدة لقاءات معها، وقد شهدت بأم عينيها الكثير من حالات الإعدام والقتل رمياً بالرصاص لمدنيين!
سُمِّي بتل الزعتر نسبة إلى قرية تل الزعتر الفلسطينية قضاء مدينة عكا، التي احتلها الصهاينة إبان النكبة في عام 1948، ومخيم تل الزعتر ليس واحداً من المخيمات المسجلة في سجلات "الأونروا"، على اعتبار أنه كان تجمعاً فلسطينياً مجاوراً لمخيمَي الدكوانة وجسر الباشا اللذيْن أنشأتهما وكالة "الأونروا" عام 1959، ويتبعان لمحافظة جبل لبنان، بالإضافة إلى مخيمات شاتيلا وضبية وبرج البراجنة، لكن بات يعرف من قبل الأهالي بمخيم تل الزعتر تيمناً بالقرية الفلسطينية، وتأكيداً على الحق في العودة. حسب إحصاء وكالة "الأونروا" في 1/7/1969 كان عدد اللاجئين المسجلين في مخيم جسر الباشا 1.176 لاجئاً، ومخيم الدكوانة 7.235 لاجئاً يقيمون داخل المخيمين، أما خارج مخيمات العاصمة اللبنانية فكان يقيم في منطقة بيروت 23.690 لاجئاً فلسطينياً مسجلاً.
طبيعة المكان الجغرافي لمخيم تل الزعتر، شرق العاصمة بيروت، وفي منطقة صناعية تكثر فيها المصانع والمعامل، جعلت من المخيم مكاناً لسكن الآلاف من العمال وعائلاتهم، سواءً الفلسطينيون أو اللبنانيون وجنسيات أخرى، لا سيما بعد عام 1968؛ إذ كانت المساحات المجاورة للمخيم قبل ذلك التاريخ تشتهر بالزراعة وببساتين الحمضيات والخضراوات، حتى قدرت أعداد المقيمين في المخيم بنحو 30 ألف مقيم، جلهم من اللاجئين الفلسطينيين، ذلك كان قبل الحصار الذي استمر 52 يوماً، وارتكاب المجزرة المروعة، وسقوط واحتلال وتسوية المخيم في الأرض من قِبل الكتائب والميليشيات المتعاونة في 12/8/1976.
وصل عدد شهداء المجزرة نحو 4.280 شهيداً، غالبيتهم من المدنيين من النساء والأطفال وكبار السن من الذين أنهكهم الجوع والعطش، والآلاف من الجرحى والثكلى والمعوقين، والآلاف من المهجرين، حتى الآن لا يوجد إحصاء دقيق لعدد المفقودين من اللاجئين الفلسطينيين الذين يقدر عددهم بالمئات، فقد كانت نكبة تهجير جديدة تضاف إلى نكبات أخرى بعد النكبة الكبرى عام 1948. بعد اتفاق الطائف في عام 1989 الذي حل الأزمة اللبنانية بتسويات وحمل شعار "العفو عما مضى"، رفضت الدولة اللبنانية إعادة إعمار المخيم، كما رفضت عودة اللاجئين المهجرين إليه، ولا تزال معالم المخيم باقية وشاهدة تذكِّر بمأساة أربعة عقود خلت.
تشكلت "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان" منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي وفيها مَن يمثل الفلسطينيين. يقدر عدد المفقودين في لبنان بين عام 1975 و1990 بنحو 17.000 مفقود، من بينهم الفلسطينيون، وحتى الآن لا نتائج ملموسة ترتقي لمستوى جهد عقود من الزمن. دعت السطات اللبنانية لتجميع فحص الحمض النووي الـ(DNA) من أهالي المفقودين لمقارنتها بالجثث التي يمكن العثور عليها في المقابر الجماعية وغيرها، إلا أن الكثيرين من السياسيين أصحاب القرار في لبنان يعتبر -حتى الآن- نبش هذا الموضوع سيعمق الكراهية والشحن الطائفي والمذهبي في البلد، وسيفتح ملفات نحن في غنى عنها، وعلى هذا يبقى مصير المفقودين مجهولاً وبالانتظار.
* كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.