طوال 122 يوماً كانت أسرة الشاب المصري إسلام خليل تبحث عنه بلا أمل، بعد إلقاء القبض عليه من منزل الأسرة في مدينة طنطا، عاصمة محافظة الغربية بدلتا مصر، كما يحكي شقيقه نور.
يتذكر العالم ضحايا الاختفاء القسري، في يوم 30 أغسطس/آب من كل عام، اليوم الذي اختارته الأمم المتحدة لإدانة هذه الجريمة القمعية، "لكنه مجرد يوم واحد في العام كله"، على حد قول نور خليل، وهو يتحدث لـ "عربي بوست"، عن ذكريات اختفاء شقيقه قسرياً.
"اعتقلوا إسلام يوم 24 مايو/أيار 2015 وظل مختفياً حتى 23 سبتمبر/أيلول 2015، وكانت من أصعب الفترات التي مرت على الأسرة، لا نعرف إن كان حياً أو ميتاً.. كنا نريد فقط أن نعرف مكانه".
أسرة إسلام ليست الوحيدة التي ذاقت مرارة هذا الفراق، ولم يكن وحده إسلام الذي تعرض للاختفاء، فصفحة التواصل الاجتماعي فيسبوك الخاصة بنور، تحولت إلى واحدة من أهم الصفحات التي تتابع حالات الاختفاء القسري في مصر.
وفي التقرير السنوي الأولي لحملة "أوقفوا الاختفاء القسري"، الذي صدر قبل ساعات، ورد حصر بأعداد الضحايا الذين تعرضوا لجريمة الاختفاء القسري في الفترة منذ 1 أغسطس 2015 وحتى منتصف أغسطس 2016، فيما يبدو رداً على تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان الصادر في يوليو 2016 عن الاختفاء القسري.
خلال هذه المدة تمكنت حملة أوقفوا الاختفاء القسري من إحصاء 912 حالة تعرضت للاختفاء القسري – معظمها وقعت بعد أغسطس 2015.
لا يزال رهن الاختفاء القسري 52 حالة مؤكدة، فيما نجا 584 شخصاً آخرين منهم 41 شخص تم الإفراج عنهم و4 أشخاص ما زالوا محتجزين. وبينما يوجد 276 اختفوا و لكن لم يتسن تحديث المعلومات الخاصة بهم لبيان إن كانوا لا يزالون رهن الاختفاء أم ضمن الناجين من الجريمة."
إسلام ليس وحده
قبل ثلاثة أيام من حلول ذكرى اليوم العالمي للاختفاء القسري، توجهت 13 أسرة من أهالي المختفين قسريًا، إلى مكتب النائب العام بدار القضاء العالي بوسط القاهرة، ذهبوا ليتقدموا بشكوى مجمعة يطالبون فيها بفتح تحقيق موحد يضم كل شكاوى الاختفاء القسري.
"كل القضايا بينها رابط من حيث نوع الجريمة" كما قال لـ "عربي بوست"، أحمد الأخ الأكبر لأحد المختفين منذ فض اعتصام رابعة العدوية في 14 أغسطس آب 2014، ولم يظهر حتى الآن.
وتختلف التقديرات حول عدد المختفين قسرياً، ويربط عدد كبير من الحقوقيين بين تفاقم تلك الظاهرة و30 يونيو/حزيران 2013، (المظاهرات التي ترتب عليها تدخل الجيش لعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي من الحكم، في 3 يوليو).
قبل يومين أصدرت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، إحدى المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان، تقريراً عنوانه "الإخفاء القسري جريمة لا تسقط بالتقادم.. التقرير النصف سنوي" قالت فيه أنها رصدت تعرض 2811 حالة اختفاء قسري من قبل الأجهزة الأمنية في الفترة ما بين 3 تمّوز (يوليو) 2013 وحتى نهاية حزيران (يونيو) 2016.
منظمة العفو الدولية (أمنيستي إنترناشنال) في تقرير صدر في تمّوز (يوليو) 2015، قالت إن هناك ارتفاعاً غير مسبوق في حالات الاختفاء القسري في مصر منذ بداية 2015، وقال فيليب لوثر -مدير فرع منظمة العفو في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في التقرير أن "الاختفاء القسري أصبح أداة رئيسية من أدوات سياسة الدولة في مصر".
وتهاجم الحكومة المصرية دائماً مثل هذه التقارير الدولية، ورفضت وزارة الخارجية في بيان لها نشرته بالإنكليزية، على صفحتها الرسمية على فيسبوك، الرد على التقرير، واعتبرتها منظمة غير محايدة.
وأصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان، التابع للسلطة، تقريراً في يوليو الماضي أكد فيه على "اختلاط للمعايير لدى المصادر المختلفة فى معالجة ادعاءات الاختفاء القسري، أوجدت التباساً بين الاحتجاز خارج نطاق القانون وجريمة الاختفاء القسري".
ما هو الاختفاء القسري
تعرف منظمة العفو الدولية الاحتفاء القسري بأنه "يحدث إذا ما قبض على شخص أو احتجز أو اختطف على أيدي عناصر تابعة للدولة أو تعمل لحساب الدولة، ثم تنفي الدولة بعد ذلك أن الشخص محتجز لديها أو لا تفصح عن مكانه، مما يجعله خارج نطاق الحماية التي يوفرها القانون". وتعرفه الأمم المتحدة بأنه "الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون."
والتعريف الأخير، يلتزم به المجلس القومي لحقوق الإنسان المصري، كون مصر
موقعة على "الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري"
وماذا يحدث على أرض الواقع؟
يقول نور خليل أن شقيقه إسلام ظهر بعد 122 يوماً في نيابة المنتزة بالإسكندرية، كمتهم بالمشاركة فى اقتحام قسم الرمل بالإسكندرية رغم أنه قبض عليه من محافظة الغربية.
ومثل إسلام كانت قضية إسراء الطويل التي اختفت قسرياً، أيضاً، فأثناء مرافقة إسراء لزميليها صهيب سعد وعمر محمد، على كورنيش النيل في منطقة المعادي جنوب القاهرة، اختفوا جميعاً، وأغلقت أجهزتهم المحمولة وتوجهت أسرهم إلى أقسام الشرطة القريبة من المنطقة، التي اختفوا فيها، إلا أن وزارة الداخلية أنكرت أي علاقة لها بتلك الواقعة، وظلت تلك رواية الداخلية حتى رأتها زائرة بسجن القناطر المخصص للسجينات، ترتدي ملابس التحقيق، وطلبت منها إسراء طمأنة أهلها.
واستمر هذا الاختفاء 16 يوماً حتى ظهرت إسراء في النيابة العامة متهمة بالانضمام لجماعة إرهابية، أسست على خلاف القانون، وبث أخبار كاذبة من شأنها تكدير الأمن والسلم العام، في ديسمبر/كانون الأوَّل 2015 أخلي سبيل إسراء، بينما مازال صهيب سعد وعمر على يحاكمان، وهناك حالات أخرى اختفت لفترات مختلفة ثم ظهرت أمام جهات تحقيق متهمة في قضايا.
المأساة الأكبر أن هناك أشخاصاً مر على اختفائهم شهور ولم يظهروا حتى الآن، منها مرور سنتين ونصف على اختفاء الناشط أشرف شحاته الذي كتبت زوجته مها مكاوي على صفحتها على فيسبوك: أكتر من 32 شهراً على اختفاء أشرف.. ما اعرفش اللي متحفظ عليه حتى الآن من غير قضية، ولا مكان واضح لحبسه، بيعرف ينام ازاي؟ حسبي الله ونعم الوكيل.
وكذلك طالب الهندسة، مصطفى ماصوني، الذي أتم 14 شهراً اختفاء، وتنفي وزارة الداخلية القبض عليه، بينما يتهمها أصدقاؤه بالمسئولية عن اختفائه.
14 شهر علي اختفاء مصطفي ماصوني #ماصوني فين
— محمد نصار (@G4d0ETkSKz5vMZw) ٢٦ أغسطس، ٢٠١٦
العشرات مازالوا رهن الاختفاء
ووفقاً لحليم حنيش المحامي بالمفوصية المصرية للحقوق والحريات في حديث لـ"عربي بوست"، فإن هناك العشرات من المختفين قسريًا ولم يظهروا حتى الآن رغم أن هناك شهوداً أكدوا أنه تم القبض عليهم بمعرفة أفراد تابعين للأمن، يضيف حنيش، وهناك حالات عثر عليه مقتولة بعد فترة من الاختفاء، منها واقعة أحمد جلال، الذي ظل مختفياً قسرياً بعد القبض عليه من منزله، لمدة 15 يوماً، ثم تلقت أسرته اتصالاً هاتفياً في يناير الماضي تطلب الحضور إلى مشرحة زينهم لاستلام جثته.
غير أن وزارة الداخلية تصر على أنها لا تنتهج هذا الأسلوب، وقال اللواء علي عبدالمولى، مساعد وزير الداخلية، أمام مجلس النواب "ما الذي يجعلنى ألجأ لوسائل باطلة إجرائيًا ولا أستطيع تحمل نتائجها، فى حين أن هناك قنوات شرعية وتعاونًا كاملًا مع جهات النيابة العامة؟".
أسباب اللجوء للإخفاء القسري
ويبقى السؤال هنا، لماذا تلجأ الشرطة لإخفاء المتهمين قسرياً؟
يقول المحامي أحمد حنيش أن الشرطة تريد أن تحقق مع المتهمين دون أي ضغط قضائي، ويضيف في حديثة لـ"عربي بوست" أنه أثناء الاختفاء القسري يكون المتهم غير مسجل في أي دفاتر رسمية وبالتالي يكون من السهل ممارسة التعذيب عليه وإكراهه على الاعتراف والتوقيع على جرائم لم يرتكبها.
ويحكي نور خليل، عن شقيقه إسلام، "بعد إلقاء القبض على إسلام خليل احتجز لفترة في مبني الأمن الوطني في طنطا، ثم نقل إلى معسكر تابع للأمن المركزي بنفس المدينة، ومنه نقل بعد فترة إلى مقر الأمن الوطني في لاظوغلي بالقاهرة".
ويضيف"أثناء الـ 122 يوماً كان فيها مختفياً، تعرض إسلام للتعذيب بكل أشكاله، ومنها الحرمان من النوم وتغمية العين، وتقييد اليدين من الخلف، والصعق بالكهرباء في أماكن متفرقة من الجسم وفي أماكن حساسة والتعليق من الأيدي والأرجل عارياً تماماً من ملابسه"
ويلفت نور إلى أن المحضر الذي لفق لإسلام وحبس به حوالي سنة احتياطياً يقول إنه تم القبض عليه من القاهرة رغم أن القبض تم في طنطا".
مواد الدستور حبر على ورق
القول بأن دستور 2014 أحد أهم الدساتير المصرية في مجال الحقوق والحريات، كان أحد أشكال الترويج للدستور، واعتمد فريق كبير من المروجين له على باب الحقوق والحريات، خاصة المادتين 54و 55 اللتين تحددان كيفية القبض على المتهمين وظروف القبض عليهم.
فجاء في المادة 54 من الدستور أنه "لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأى قيد إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق. ويجب أن يُبلغ فوراً كل من تقيد حريته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة، ويُمكن من الاتصال بذويه و بمحاميه فوراً، وأن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة من وقت تقييد حريته. ولا يبدأ التحقيق معه إلا فى حضور محاميه، فإن لم يكن له محام، نُدب له محام.."
بينما حددت المادة 55 أماكن الاحتجاز، والتعامل مع المتهم فجاء فيها أن "كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيًا أو معنويًا، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا فى أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانيًا وصحياً.."
وأين إسلام خليل؟
عاد إسلام خليل للاختفاء القسري من جديد وفقاً لما قاله شقيقه نور، بعد بأن النيابة أصدرت قرار في 21 آب (أغسطس) الجاري بإخلاء سبيل إسلام بكفالة 50 ألف جنيه مصري (5630 دولاراً أميركياً) وحتى الآن، مساء 29 أغسطس آب، لم يخل سبيله. "إسلام تم تهديده بإنه مش هيخرج تاني حتي لو خد إخلاء سبيل ومفيش حد هيعرف مكانه أو هيتقتل وده كان تهديدات مباشرة واعتداءات عليه داخل السجن بسبب شهادته عن الاختفاء القسري".
القومي لحقوق الإنسان يصدق الداخلية فقط
وبرغم تلك الشهادات المنتشرة، فإن المجلس القومي لحقوق الإنسان يصر على أن الداخلية تعاونت مع مطالبات المجلس في توضيح طبيعة الحالات التي وصلته شكوى باختفائها قسرياً.
يقول صلاح سلام عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، في حديث لـ "عربي بوست"، أن المجلس أرسل طلباً رسمياً للداخلية للاستفسار عن 312 حالة وصلته شكاوى باختفائهم قسرياً، فرد الوزارة بخطاب رسمي يتضمن أماكن تواجد 261 حالة فقط، وأنهم محبوسون احتياطياً على ذمة قضايا، بينما باقي الأسماء البالغة 51 حالة لم يتم العثور لهم على أية بيانات داخل السجون وأقسام الشرطة أو لدى أية جهة أمنية.
وتضمن تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان الصادر في يوليو الماضي، ردود وزارة الداخلية على هذه التهمة، وأكدت الوزارة في ردها على "أنه لا يوجد قيد الاحتجاز طرفها سوى السجناء أو المحبوسين بقرارات من النيابة العامة على ذمة قضايا تمهيداً لتقديمهم إلى المحاكمة أو الإفراج عنهم، وأنه ربما يكون من بين المدعى باختفائهم قسرياً عناصر غادرت البلاد للانضمام للمنظمات الإرهابية العاملة فى عدة بلدان عربية أو عناصر هاربة مطلوب القبض تنفيذاً لقرار النيابة العامة، أو هاجروا بطريقة غير شرعية خارج البلاد".
إسلام في طريقه للنور
في ساعة متأخرة من مساء 29 آب/أغسطس الجاري، كتب نور خليل على صفحتة الشخصية أنهم توصلوا لمكان إسلام، وأضاف "هيبيتوه النهاردة في قسم ترحيلات طنطا في سبرباي ويترحل بكره محل الإقامة في مركز شرطة السنطة علشان يخلي سبيله من هناك بكره لو أمن الدولة معقدش الموضوع"، غير أن الموضوع لازال معقداً بالفعل لكثير لم يعرف أسرهم أين هم الآن؟