كيف أعدّوا الوحش الذي أسال الدماء في “رابعة” و”النهضة”؟

الإخوان الموجودون في "رابعة العدوية" و"النهضة" ليسوا بشراً مثلنا.. هذه هي النتيجة التي كنت ستخرج بها، لو انسقت خلف حملات الإعلام الموالي الهيستيرية، في تلك اللحظة المشؤومة.. مؤشر التخوين يتصاعد لذروته في اتجاه أي شخص، يطرح ولو تساؤلاً بسيطاً عن إمكانية وجود حل غير ذبح أكثر من ألف إنسان، في وضح النهار..

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/14 الساعة 06:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/14 الساعة 06:38 بتوقيت غرينتش

"1"
يومها، نزلتُ إلى الشارع، مذهولاً، أبحث عن تفسير لما يحدث ربما، أو أبحث عن بعض الهواء لا أكثر، لا أعرف.. ما أدركته جيداً لحظتها أن صور وفيديوهات المذبحة، التي شاهدتها للتو عبر فيسبوك، لا أثر ولا صدى لها في شوارع الحي الشعبي الذي أسكن به.. على العكس، كانت السعادة والراحة بادية على وجوه معظم أصحاب المحلات والمارة، وتليفزيونات المقاهي تبث مشاهد حية لما يجري، من القنوات الفضائية الموالية للدولة بالطبع.

كنتُ مندهشاً، كيف يبتسم صاحب المخبز، هذا العجوز الطيب الذي عرفته لسنوات، وهو يقول لصاحب المحل الذي بجواره: "الحمد لله.. خليهم يدبحوهم ويخلصوا عليهم ولاد الكلب دول! خلينا نخلص ونرتاح بقى!"

كيف نجحوا في تحويل إسالة دماء مجموعة معينة من البشر لغاية ومصدر سعادة لعدد كبير من أفراد مجتمع، لا تاريخ دموي له في العصر الحديث، مثل المجتمع المصري؟

كيف نجحوا في تحويل معظمنا لمجموعة من الضباع المتعطشة لرائحة الدماء؟

"2"

لا المصريون شعب له تاريخ في تأييد المذابح ومعايشتها والتعوُّد عليها، ولا مَن كانوا في رابعة يستحقون ما جرى لهم، ولا ما جرى من الأساس كان على سبيل الصدفة.. لقد تم الإعداد لكل شيء جيداً.. العسكر فشلة في إدارة شؤون الحكم، هذا ما أثبته التاريخ ويثبته الواقع الذي نعيشه في مصر الآن.. لكن هذا لا يعني أنهم فشلة في إعداد الانقلابات وإدارة المكائد أبداً.. نفس الإدارة العسكرية السلطوية الفاشلة، التي كانت ذروة لحظتها فشلها في هزيمة يونيو/حزيران 1967، هي ذات الإدارة التي خططت ونفذت بعناية للإطاحة باللواء محمد نجيب، وجماعة الإخوان المسلمين، وكل معارض للسلطة العسكرية، حتى لم يبقَ أمام الناس إلا جمال عبدالناصر، فاتخذوه زعيماً وقائداً، حتى خرج عليهم في مشهد التنحّي الشهير، وكان الانكسار.

في الجزء الأول من سلسلة الأفلام الوثائقية "فراعنة مصر المعاصرون"، التي بثتها قناة "بي بي سي" في نسختها العربية، تحدّث الضابط عبدالرحمن فريد، أحد أعضاء تنظيم "الضباط الأحرار"، الذي كان مسؤولاً عن المخابرات العسكرية، وكيف سوّقوا للرئيس محمد نجيب في بداية عهده، عن طريق تدبيس صورة "نجيب" بورقة نقدية من فئة الـ" 10صاغ"، ويلقونها من القطار الذي يستقله "محمد نجيب" على رؤوس الفلاحين المساكين.. هكذا يجد الفلّاح الجائع في يده ورقة مالية ملتصقة بصورة الرئيس.. وهكذا تتم صناعة الفراعين في المجتمعات المتآكلة.

ونفس الضابط "عبدالرحمن فريد" يحكي، في ذات الفيلم، كيف أزاحوا محمد نجيب من الذاكرة الجمعية للمصريين، عندما تصادموا معه، وكيف عزلوه في بيته وحيداً منفياً في وطنه.. وكيف تحالفوا مع الإخوان، وسحقوهم وأعدموا قياداتهم فيما بعد، عندما انفض تحالفهم.. وروى بثبات حكاية المظاهرات المؤيدة للنظام، والمنشورات الشعبية "المضروبة" التي كانت تُطبع في مبنى المخابرات، وتُوزع في الشارع، على أنها منشورات شعبية مؤيدة للزعيم.

"3"

لم يكن قراراً فُجائياً، ولم تكن مذبحة الفض الدموي صُدفة.

خلال العام الذي تولى فيه "محمد مرسي" رئاسة الجمهورية، كان العمل الدؤوب في أروقة أجهزة الدولة يجري على قدم وساق، ليس للإطاحة بالإخوان من الرئاسة فقط، بل لسحقهم وإزاحتهم من المشهد للأبد، أو على الأقل لسنين طويلة، وبإزاحتهم سيصبح الوضع، محلياً وإقليمياً، مهيأً لعودة العسكر لتصدُّر الصورة، والسيطرة على كل شيء، دون منازع.

هذا بعضٌ مما جرى، وليس كل الحقيقة، لا نملك إلا النظر والتحليل في وقائع ما جرى، وما شاهدنا وعاصرناه بأنفسنا، وبالتأكيد كان هناك الكثير مما تم إخفاؤه في الكواليس، التي لم يُسمح لنا بالنظر خلالها حتى الآن، لكننا نملك العقل، ونملك بعض الرؤية الآن، حتى لو لم نكن نملكها في حينها.

*الخطوة الأولى: إشاعة العنف

منذ لحظة الإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره محمد مرسي، واندفاع الناس إلى الشوارع، اعتراضاً عليه ومطالبين برحيله، وبداية المصدامات العنيفة، بدا أن الأمن المصري حريص كل الحرص على بقاء الأحداث مشتعلة في الشارع.. صارت المصادمات بين المتظاهرين وقوات الأمن، أو بين المتظاهرين وأفراد جماعة الإخوان.. منطقة "وسط البلد" في القاهرة بالتحديد صارت مغطاة بالغاز المسيل للدموع في معظم أيام الأسبوع.. كل يوم خبر عن مصاب هنا، وقتيل هناك.. كان الضباب يعمّ المشهد، لكن وسط هذا الضباب كانت الملاحظة العامة أن أخبار الدماء والعنف صارت "عادية".. وأسهم في هذا بالطبع سجل الدماء الذي تركه مجلس المشير حسين طنطاوي في "ماسبيرو ومحمد محمود وشارع قصر العيني"، وغيرها من الجرائم الأمنية في حق المتظاهرين.. وفي أثناء حكم محمد مرسي، كانت ذروة الدموية غير المبررة في بورسعيد، في ذكرى مذبحة ألتراس الأهلي، عندما فتحت الشرطة نيرانها على المارة في شوارع بورسعيد، في مشهد بدت رائحة المؤامرة تفوح من كل جنباته، إلا أن محمد مرسي يبدو أنه الوحيد الذي لم يشمّها، وخرج ليعلن دعمه وشكره لرجال الشرطة، وأعلن حظر التجوُّل.

جعلوا أخبار القتل عادية.. فكانت أولى خطوات التمهيد للمذبحة.

* الخطوة الثانية: كسر هيبة الرئيس

لا أظن أن مصر عرفت في تاريخها المُدوَّن حاكماً تعرض للاستهزاء والاستخفاف مثل محمد مرسي.. لعب الإعلام هنا الدور الأكبر والأهم، من منّا ينسى حفلة السب واللعن اليومية التي كانت تقودها برامج التوك شو؟ وكان الختام يأتي بفقرة السخرية من باسم يوسف في نهاية كل أسبوع.. حتى لقاء الرئيس عبر التليفزيون الرسمي يُذاع متأخراً ساعتين عن ميعاده! ساهم مرسي نفسه في هذا، بتخبُّط الإدارة وعجزه عن تجاوز العراقيل التي وُضعت له في طريقه، بل وعجزه عن إدراكها من الأساس في بعض الأحيان!

* الخطوة الثالثة: عزل الإسلاميين مُجتمعياً.. خلق العدو الشعبي!

بعد شهور من تولّي محمد مرسي الرئاسة، أصبحت لهجة الخطاب الرسمية في الفضائيات "إحنا وانتو".. هكذا انقسم الشعب إلى مجموعتين، بمنتهى الوضوح والسهولة! وكأن الإخوان والإسلاميين من جنسية أخرى غير جنسية المصريين.. أسهم الإخوان والإسلاميون في هذه بنصيب كبير، من خلال خطابهم الإعلامي شديد السطحية، الذي أخذ يطلق التهديد والوعيد والتصريحات المضحكة في كل فرصة.. كأنهم وضعوا لهم الطُّعم، ولم يتوقع العسكر كل هذا الاندفاع الجنوني نحو المصيدة! هكذا أصبح الإسلاميون، والإخوان بالذات، كما أخذ الإعلام يردد بصراحة أو بالتورية، هم عدو الشعب، وسبب مشاكله.. هم الإرهاب والإفقار وسبب أزمات الكهرباء وأنابيب البوتاجاز.. وبزوالهم تحل كل المشاكل!

* الخطوة الأخيرة: شيطنة العدو وإعداد آلات الذبح

بعد تقليم أظافره كرئيس، وعزل الإخوان المسلمين عن كل حلفائهم السياسيين، كانت الإطاحة بمحمد مرسي خطوة شديدة البساطة واليُسر على السيسي.. خلال الفترة ما بين الانقلاب في 3 يوليو/تموز، ومذبحة الفض الدموي في الـ 14 من أغسطس/آب، جرت "بروفتان" للمذبحة، واحدة عند "المنصة"، والأخرى في محيط "الحرس الجمهوري".. ذُبح المئات، بينما كان الإعلام يردد بهيستيريا حديثاً لا ينقطع عن الإخوان الذين يمارسون "جهاد النكاح" في خيام اعتصام "رابعة"، وكيف أنهم يتبولون ويتبرزون في الشوارع، كالحيوانات، ويسرقون المارة؛ مستغلين في سبيل كل هذا الكذب، بعض مشاهد الهيستيريا التي حدثت في ميداني "رابعة" و"النهضة"، عند الإعلان عن الانقلاب، مثل المشهد الشهير للملتحي الذي ينظر للكاميرا ويتوعد: "يا إما ترجعوا الرئيس مرسي، يا هنفجر مصر"، الذي ظلّ يُذاع ويُردد عبر الفضائيات كأنه الأذان.

الإخوان الموجودون في "رابعة العدوية" و"النهضة" ليسوا بشراً مثلنا.. هذه هي النتيجة التي كنت ستخرج بها، لو انسقت خلف حملات الإعلام الموالي الهيستيرية، في تلك اللحظة المشؤومة.. مؤشر التخوين يتصاعد لذروته في اتجاه أي شخص، يطرح ولو تساؤلاً بسيطاً عن إمكانية وجود حل غير ذبح أكثر من ألف إنسان، في وضح النهار.. حتى قوات الأمن التي قامت بعملية الفض، تعرضت لعملية غسيل دماغ ممنهجة، على مدار مدة الشهر والنصف التي تلت انقلاب الثالث من يوليو، عن طريق شيوخ السلطان، مثل "علي جمعة"، الذي أفتى لهم بجواز قتل المعتصمين في رابعة والنهضة.. ومثل بعض فرق الأمن المركزي والشرطة العسكرية التي مُنع مجندوها من أداء إجازاتهم الدورية المعتادة، وأي شخص أدى أو يعرف من أدى التجنيد الإجباري، يدرك أن الفرد المجند ينتظرها بلهفة الرضيع لأمه.. وعندما كانوا يسألونهم عن سبب منع الإجازات، كانت تُقال صريحة: بسبب الموجودين في رابعة والنهضة.. طول ما هم موجودين هناك، هتفضلوا مرميين في الشارع!

هكذا أعدوا المسرح، وأعطوا الأوامر، وكان المعظم مستعدين لتقبُّل، بل وتأييد، أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد